القائمة الرئيسية

الصفحات

 


ادعت واشنطن منذ اللحظة الأولى لغزوها العراق أنها جاءت من أجل الديمقراطية، وبعد اتفاقها مع الجانب العراقي على الانسحاب الكامل العام 2011 ظل ذلك الانسحاب صوريًا إلى حد كبير، خاصة مع وجود خبراء عسكريين واستخباراتيين أمريكيين، واتضحت صورية الاتفاق مع قدوم القوات الأمريكية القتالية بكامل عدتها وعتادها العام 2014 لضرب تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وبعد انتهاء المهام القتالية والقضاء على التنظيم واستعادة العراق لكامل أراضيه رسميًا، العام 2017، عادت واشنطن وبغداد للتأكيد على انسحاب كامل القوات الأمريكية، وهو ما لم يحدث بعد مناوشات أمريكية - إيرانية "معتادة"، ووفق آخر اتفاق على انسحاب القوات الأمريكية "القتالية" فإن الأمر لا يشمل المئات من العسكريين الآخرين الذين يتولون أدوارا غير قتالية.
ووفق مسؤولي الولايات المتحدة، فإنها ستحتفظ بنحو 2500 جندي لتقديم ما تسميه مهام المشورة والتدريب والدعم الاستخباراتي للقوات العراقية لملاحقة فلول تنظيم الدولة.
ومع مقارنة الوضع بأفغانستان، نجد أن واشنطن أمامها خيارين لا ثالث لهما، فإما "الديمقراطية بقوة السلاح"، أو "الانسحاب الكامل مع قبول الهزيمة كأمر واقع سواء كانت من قبل الميليشيات الإيرانية، أو تنظيم داعش، أو غير ذلك"، وهو ما كتبت عنه منذ أكثر من عقد، تحت عنوان

العراق.. ديمقراطية بقوة السلاح!

يسعى الأمريكيون إلى الانسحاب التدريجي من العراق بعد إرساء نظام ديمقراطي فيه، يكون مثالاً يُحتذى في الشرق الأوسط.. هذه المساعي حثيثة منذ الغزو في العام 2003، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، ولن يتحقق.
لا يرى الأمريكيون غضاضةً في مقارنة العراق بألمانيا واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية؛ حيث احتلت القوات الأمريكية البلدين، وأرست فيهما دعائم ما تعتقد أنه نظامٌ ديمقراطيٌّ وذلك بالطبع بعد القضاءِ التامِّ على فلول المقاومة، حتى ولو كانت مجرد فكرة في رؤوس بعض المواطنين الذين تحوَّلوا بفضل الدعاية الأمريكية من مناصرين لنظمهم إلى ناقمين عليها.
بالتأكيد المسألة تختلف تمامًا في الحالة العربية والإسلامية، فالديمقراطية الأمريكية والغربية بوجه عام تمارَس بين حزبين، تتقارب أجندتهما في الأهداف، وتختلف فقط في بعض التفاصيل، وكيفية الوصول إلى هذه الأهداف، فلا يجوز منطقيًّا وعمليًّا أن تمارَس الديمقراطية بين حزب ليبرالي ديمقراطي وآخر شيوعي، يتمتع كلاهما بثقل سياسي وتاريخ حاضر في أذهان الشعب، وأن يتبادلا السلطة وينفِّذ كل منهما أجندته المناقضة للآخر.
كذلك لا يجوز أن تمارَس الديمقراطية بين أحزاب متعددة، يعبِّر كلٌّ منها عن دين مختلف أو مذهب مختلف أو عرق مختلف، في بلد يتميز بالتنوع الديموغرافي، ولو حدث ذلك في أمريكا لتفتَّتت لأكثر من عشرين دولة، حيث إن النتائج ستكون محسوبةً سلفًا قبل بدء أي انتخابات، وينتج من ذلك أنْ يأخذ التنافس الانتخابي منحنيات أخرى قد تصل إلى الصراع المسلَّح، وتنتهي بالحرب الأهلية.
في ألمانيا واليابان كان السيناريو الأمريكي يختلف عن السيناريو الأمريكي لمستقبل دول العالم الإسلامي، ففي ألمانيا كان السيناريو هو التقسيم إلى دولتين؛ وذلك بسبب الموقع الجغرافي، ووجود الاتحاد السوفيتي، وفي البلدين ألمانيا واليابان استبعد المستعمر كل عناصر النظام البائد بسهولة لا تقارن بالوضع في العراق أو أفغانستان، التي لا تزال حكومتها كما هي بكل أركانها ووزرائها بعد ثماني سنوات من الحرب.
وكذلك تم استبعاد أي عناصر أخرى يمكن أن يكون لها كلمة مستقلة، وأقام بذلك دعائم ديمقراطيته الخاصة، واحتفظ بقواعده العسكرية في كلا البلدين، وطوال هذه الفترة لم تقل طوكيو "لا" لواشنطن إلا في أكتوبر الماضي، عندما رفضت مواصلة دعم عمليات الناتو في أفغانستان عبر المحيط الهندي.
وهدف الديمقراطية في العالم الإسلامي من وجهة النظر الأمريكية هو إعادة تقسيم المقسَّم، وهذا هو حال الديمقراطية التي فرضتها واشنطن على دول الشرق الأوسط الكبير؛ ففي فلسطين أنتجت الديمقراطية كيانين منفصلين، وفي لبنان تلوِّح الديمقراطية بعصا الحرب الأهلية مع كل انتخابات تُجرَى في البلاد كما أنها تسير كالسلحفاة في كل خطوة تخطوها، وفي أفغانستان لا مانع من التغاضي عن وصول رئيس إلى سدَّة الحكم عن طريق التزوير، طالما أنه سيساعد قوات الاحتلال.
أما العراق فيظل مجلس النواب بلا عمل طوال أربع سنوات إلى أن يحين موعد اختمار خطط التقسيم الأمريكية، فنائب البرلمان العراقي يكتفي باللقب ويتغاضى عن كل مآسي الشعب إلا إذا تعلَّق الأمر بنفوذه أو نفوذ القوة السياسية التي يمثلها في المجلس، وبهذه الطريقة ظل قانون الانتخابات العراقي يلقَّى ويلقَّف من يد إلى يد لأسابيع حتى يتقرر مصيره، والواقع أنه لا أحد يعرف مصيره حتى الآن، وحتى إن حُدِّد مصير هذا القانون فإن مصير العملية السياسية في العراق سيظل مجهولاً إلى وقت غير معلوم في ظل وجود قوات الاحتلال ومأساة الطائفية والتطرف والتخريب الذي تعيشه البلاد.
ورغم تشكيل ائتلافات جديدة تدَّعي البعد عن الطائفية فإن المشكلة لا تزال قائمةًً بل وتتعمَّق؛ حيث تشكَّل الشهر الماضي ائتلافٌ من قيادات شيعية وصدرية واستبعد حزب الدعوة الإسلامية الذي يترأَّسه نوري المالكي ووضع له اسم "الائتلاف الوطني العراقي" فردَّ المالكي بتشكيل ائتلاف جديد لخوض الانتخابات أمام الائتلاف السابق تحت اسم "ائتلاف دولة القانون"، وهي أسماء تُوحي بالبعد عن الطائفية والاقتراب من الدولة المدنية الوطنية التي يسود فيها حكم القانون، بينما هي اقتراب من الشخصنة وتأسيس كيانات سياسية لحماية مصالح أشخاص، كثر عددهم، وتعاظمت قواهم، وقوي بعضهم على بعض؛ في ظل غياب القانون والفوضى المدمرة التي تجتاح البلاد منذ الغزو.
ومع كل هذا الزخم يعيش العراق حالةً من الجدل السياسي اللا نهائي، فكلما انفضَّت قضية تلتها الأخرى، وكلها قضايا في غاية التعقيد، يتم خلقها وتعقيدها بحيث يصعب إيجاد حل بين الفرقاء الشركاء الذين لم يتفقوا ولن يتفقوا؛ حيث تتضارب المصالح وآخر هذه القضايا الخلافية "قانون الانتخابات العراقي الجديد"؛ فبعد فشل البرلمان في التصويت عليه عشر مرات تمَّ إقراره لكن يبدو أنه إقرار مع وقف التنفيذ؛ حيث يواجه العديد من العثرات والاعتراضات؛ حيث اجتمعت مصلحة الأكراد مع طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي؛ حيث وجَّه رسالةً إلى أعضاء مجلس النواب، طالبهم فيها بإعادة التصويت على الفقرة الخاصة بالمهجَّرين في الخارج، وتعديلها من 5% من المقاعد التعويضية إلى 15% منها، مؤكدًا أن نسبة 5% فقط من المقاعد التعويضية لا تتناسب وأعدادهم في الخارج.
وأكد نواب في البرلمان، وعلى رأسهم بهاء الأعرجي رئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب، أن رسالة الهاشمي تمَّ رفضها بالإجماع، وأن هناك فترةً قانونيةً ينص عليها الدستور لكي ينقض مجلس الرئاسة القانون، وهي 10 أيام من تاريخه، وإذا مرت هذه الفترة دون اعتراض مجلس الرئاسة بشكل رسمي فسيعتبر القانون نافذا.
وقد لوَّح طارق الهاشمي بالفعل باستخدام حق النقض (الفيتو) على قانون الانتخابات، وجدَّد دعوته إلى البرلمان بتعديل نسب مقاعد المهجَّرين، الذين أكد أن أعدادهم تفوق الـ3 ملايين مواطن عراقي لهم حق في التصويت في الانتخابات، مثلهم مثل مواطني الداخل، وطبقًا للدستور العراقي فإن لكل 100 ألف نسمة ممثلاً في البرلمان، وبذلك تكون نسبة الـ5% من المقاعد التعويضية لعراقيِّي الخارج قليلةً جدًّا.
وفي تطور لافت أوضح حقيقة الموقف الكردي، هدد مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان بمقاطعة الانتخابات في حال عدم إعادة النظر في توزيع المقاعد النيابية على المحافظة الكردية، وقال: "إنه لا يمكن القبول بآلية توزيع المقاعد اعتمادًا على البطاقة التموينية التي أعدتها وزارة التجارة؛ لأنها تتعارض مع المنطق والواقع".
فاعتماد هذا الأسلوب تشويه للحقائق وظلم وإجحاف لحقوق شعب كردستان، وإن رئاسة الإقليم ترى أن الهدف من اتباع هذه الآلية هو تقليل عدد ممثلي شعب كردستان والقضاء على مكاسبه، ويأتي هذا التهديد في سياق أن تحديد المفوضية العليا المستقلة للانتخابات 38 مقعدًا للمحافظات التي تحظى بوجود كردي وهي (ديالى ونينوى وكركوك) وذلك اعتمادًا على سجلات وزارة التجارة العراقية تبعًا للبطاقات التموينية؛ قد يجعل من الأكراد قوةً ثانويةً في البرلمان الجديد، وليس شريكًا سياسيًّا قويًّا، خاصةً أن تولي الحكم يتطلَّب أن يحصل الحزب (أو الائتلاف) الفائز بالانتخابات على 160 مقعدًا من إجمالي عدد المقاعد البرلمانية.
وقد جاء هذا التهديد رغم دعوة مجلس الأمن الدولي القادة العراقيين إلى التحلي بحسِّ الدولة، وروح الوحدة خلال الانتخابات التشريعية المزمعة، ولكن من أين تأتي هذه الروح والدستور والقانون يكرسان لنظام طائفي يقوم على التمييز بين أبناء الشعب العراقي، من سنة وشيعة، وعرب وأكراد وتركمان؛ ما يهدِّد بالانقسام؛ حيث يعيش العراق الآن واقع الانقسام وتكريسه قبل خروج نسبة كبيرة من قوات الاحتلال منه، خاصةً الإقليم الشمالي كردستان العراق، والذي يعتبر دولةً داخل العراق المحتل.

أزمة كركوك

وضمن أهم القضايا التي كانت وما زالت محورًا للجدل السياسي حول قانون الانتخابات قضية كركوك المدينة الغنية بالنفط، والتي يسكنها خليط عرقي عربي تركماني كردي؛ حيث كانت المدينة- التي يعني اسمها باللغة السومرية القديمة (كركر) وتعني "شعلة النار الملتهبة"- شعلةً لنار الفتنة بين العرب والتركمان من جهة والأكراد من جهة أخرى أثناء جلسات مجلس النواب لإقرار القانون الجديد؛ حيث تم التوافق في النهاية على إجراء الانتخابات في كركوك في موعدها واعتماد القائمة المفتوحة بدلاً من تجاهلها مثلما حدث في الانتخابات المحلية.
ونص القانون الجديد الذي يُعدُّ تعديلاً لقانون انتخابات 2005م، على أن يكون الترشيح فيها كما ينص القانون على حق الترشح الفردي، ونص كذلك على اعتماد سجل الناخبين لعام 2009م في كركوك؛ على أن تشكَّل لجنة لتقصي الحقائق حول المخالفات التي قد تكون حصلت في سجل الناخبين بجميع المحافظات التي يشك بسجلاَّتها، ومنها كركوك.
وكذلك فإن نتائج الانتخابات في محافظة كركوك أو أية محافظة مشكوك في سجلاَّتها قبل الانتهاء من عملية تدقيق سجلاَّت الناخبين فيها، طبقًا لنص القانون أساسًا لأي عملية انتخابية مستقبلية أو سابقة لأي وضع سياسي أو إداري.
ولا شك أن كركوك الآن تسير باتجاه الأكراد والانضمام إلى إقليم كردستان العراق، وبهذا الشكل يحقق الأكراد مزيدًا من الاستقلال الاقتصادي في خطوة تكرس للتقسيم.
والمشهد العراقي يؤكد أنه مع كل انتخابات محلية أو تشريعية يحدث تغيرٌ يصبُّ في صالح المخططات الأمريكية الصهيونية الرامية إلى تقسيمه والحفاظ عليه هزيلاً غارقًا بين طوائفه وصراعاته الداخلية لنهب ثرواته من جهة، والتي تستولي عليها الشركات الأمريكية، ولتأمين الكيان الصهيوني من جهة أخرى.
ويبدو أن كركوك ستشكِّل انطلاق أهم مراحل مشروع إعادة تقسيم (الشرق الأوسط الكبير) وما يحدث في اليمن ليس ببعيد، ومن الواضح أن كردستان العراق يتجه نحو مزيد من الاستقلال بحماية أمريكية صهيونية وبالتفاهم مع تركيا، ويتضح ذلك من خلال السياسة التركية تجاه الإقليم الكردي، والتي اتسمت بنوع من التسامح من أجل بناء علاقات مع الكيان الحتمي في كردستان العراق تمنع أو تقلل من حدوث أي اضطرابات من قبيل حزب العمال الكردستاني، والذي يتخذ من شمال العراق ملاذًا له.

مستقبل العراق

من جهة أخرى يؤثر هذا الجدل المحتدم بشأن قانون الانتخابات العراقي في موعد إجراء الانتخابات التشريعية والمقرر إجراؤها يناير المقبل، طبقًا للموعد الذي سبق وحددته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لكن التأجيلات التي حصلت في مجلس النواب لإقرار القانون جعلت إجراءها في موعدها أمرًا غير ممكن.
وقد أكدت المسئولة في المفوضية حمدية الحسيني في وقت سابق لوكالة "فرانس برس" أنه في حال تغيير القانون سيؤثر ذلك في موعد الانتخابات وعلى المفوضية أيضًا.
كما أن أي تعديل إضافي على قانون الانتخابات العراقي سيؤثر في جدولة انسحاب القوات الأمريكية مع الحاجة الأمريكية لذلك في ظل تردِّي الوضع على الجبهة الأفغانية، وقد صرح عسكريون أمريكيون بضرورة وجود قوات أمريكية بعد الانتخابات بفترة آمنة تم تحديدها بشهرين على الأقل في ظل الأوضاع المضطربة.
ومع تصاعد التوتر خاصةً بين بغداد وحكومة أربيل، خاصةً فيما يتعلق بكركوك؛ فإن الانسحاب الأمريكي غير مأمون العواقب، هذا بالإضافة إلى الاحتدام الطائفي والوجود الإيراني؛ لذلك اقترح نوري المالكي في محاضرة له بمعهد واشنطن للسلام أن تبقى القوات الأمريكية لما بعد 2011م، وهكذا يبدو أن الديمقراطية الأمريكية يجب أن يستمر معها السلاح.




author-img
لكل منا طيفه الذي ما إن يبدأ أولى خطواته في الحياة ويمر بتجاربه الخاصة يتحوّل إلى أطياف متعددة نابعة من ذلك الطيف الأول، هنا أشارككم أطيافي وأحلامي وعوالمي.

تعليقات