القائمة الرئيسية

الصفحات

 

عبدالعظيم الأنصاري

قوّتك هي حدود حريتك في التصرف، هي مدى استقلاليتك، وقوتك بالنسبة لغيرك هي حدود حريتك في التصرّف معه، ومدى ‏استقلاليتك أمامه، وهل أنت تابع له وإلى أي درجة؟ أم هو التابع لك وإلى أي درجة؟‎
ما سبق محاولة من محاولات كثيرة لتعريف "القوّة" في العلاقات الدولية، السؤال الذي شغل علماء السياسة طوال التاريخ، ‏وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي لم يفصلها عن الحرب الأولى "العظمى" سوى بضع سنوات، كان ‏الجميع يخشى من صدمة وقوع حرب عالمية ثالثة، فنبعت أهمية التساؤل عن القوّة التي كانت لا شك أحد أهم العوامل في ‏إطلاق الحرب، حين شعرت إحدى القوى أنها تمتلك قوّة أكبر من خصومها، وأنها تستطيع الانتصار عليهم‎.‎
ورغم اختلافات التعريفات فإنها كانت تدور حول قدرة طرف في التأثير على الطرف الآخر، فقوة دولة ما هي قدرتها على ‏التأثير في سلوك الدول الأخرى، أو التحكم في سلوكها، واختلف كذلك حول كون القوّة هدفاً في حد ذاتها أم أنها مُجرّد ‏وسيلة لتحقيق غاية ما، وفي هذا المجال تحدث "هانز جي مورجانثو" عن أن القوّة في حد ذاتها قد تُمثل قيمة مرغوباً ‏فيها، تماماً مثل سعي رجال الأعمال إلى استثمار أموالهم بهدف تحقيق المزيد من الأرباح المالية الإضافية، وهكذا من ‏المفترض في أي سياسي، سواء كان شخصاً أو حزباً أو دولةً، الحفاظ على ما يكتسبه من قوّة بهدف تحقيق المزيد من القوّة ‏للصمود في مواجهة الأطراف المعادية له، سواء كان ذلك في إطار التنافس الانتخابي داخل الدولة، أو التنافس على المزيد ‏من مكتسبات القوّة وإتاحة المزيد من الخيارات أمام الدولة في مواجهة الدول الأخرى‎.‎
لا تتوقف المسألة هنا، ففي عالم السياسة أو عالم القوّة، لا يجب الاكتفاء بحد مُعين من القوّة، فوقوفك عن تحصيل المزيد ‏من القوّة يعني أن نموّك قد توقف في الوقت الذي ينمو فيه الآخرون من حولك، فإذا ما نجح هؤلاء الآخرون في تحصيل ‏قوّة بمقدار أعلى منك تتحول قوتك إلى ضعف، حتى ولو لم ينقص منها شيء‎.‎
لا تكمن "القوّة" في مجرد النمو الاقتصادي وبناء اقتصاد قوي يعتمد على نهضة صناعية وزراعية، وإصلاح النظام ‏السياسي من أي خلل قد يؤثر في استقراره، وبناء قوة عسكرية تعتمد على الصناعة المحلية، وبناء ترسانة نووية ضخمة، ‏ليست هذه هي "القوة"، فالقوة كما يراها "مورجانثو" في أحد تعريفاته لها في العلاقات الدولية، أنها علاقة نفسية بين ‏الدول، فربما تكون الدولة "أ" أضعف من الدولة "ب"، لكنها نفسياً تسعى للنهوض، ولديها ما يُعينها على ذلك، ولديها ما ‏يجعل الدولة "ب" تُفكر ألف مرّة قبل الاعتداء عليها مباشرةً نتيجة ما ستتعرّض له من خسائر‎.‎
فقبل كل شيء لا بد أن تتوافر "النيّة" لنيل القوّة وإتاحة المزيد من الخيارات لنيل الاستقلال الكامل، "فإذا كانت الدولة "أ" ‏مقتنعة بأنها أضعف من الدولة "ب"، وأن 99% من أوراق اللعبة الدولية في يدها، فلا مجال هنا للحديث عن "نيّة" أو ‏‏"قوّة" أو "حرية" أو "استقلال"، فهذه الحالة تُشبه إلى حد كبير حالة فتاة أدركت أن مصيرها أمام أحد البلطجية هو ‏‏"الاغتصاب الكامل، ما عدا 1%"، عندما تصل هذه الفتاة إلى تلك القناعة فإنها لن تُقاوم ولن تحاول، وفي الغالب ‏ستُفضل عن قناعة الاستمتاع، بدلاً من المقاومة التي لا طائل منها.‏
ليست "القوة" مجرد اجتماع مجموعة من العوامل مثل الصناعة والاقتصاد والتسليح وغيرها، كما ‏أنها ليست مجرد وجود ‏‏"نيّة" أو "سعي" للنهوض والاستقلال ومن ثَم بسط النفوذ والتوسع، فهي ‏توافق وتوازن بين الاتجاهين.‏
وإن قيام أي قوّة في أي بقعة على الأرض يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على القوى في بقعة أخرى بعيدة كل البعد ‏عنها، وبالنظر سريعاً على بانوراما الأحداث التاريخية (الماضي) والسياسية (الحاضر) واستقراء المستقبل، يُلاحظ أن عملية ‏التأثير والتأثُر هذه تزداد قوة وسرعة مع استمرار الزمن في حركته الهُلامية تجاه المجهول، وهذا ما سنستفيض فيه في هذه ‏السلسلة من التدوينات.‏

___________________________________________________________________

نُشر في موقع هافينغتون بوست عربي، العام 2016


author-img
لكل منا طيفه الذي ما إن يبدأ أولى خطواته في الحياة ويمر بتجاربه الخاصة يتحوّل إلى أطياف متعددة نابعة من ذلك الطيف الأول، هنا أشارككم أطيافي وأحلامي وعوالمي.

تعليقات