كان العام 2009 عام الفشل العسكري الأمريكي الذريع في كلٍ من العراق وأفغانستان.
كما أن العام 2022 مثّل نقطة تحوّل حقيقية في السياسة الأمريكية على المستويَين الداخلي والخارجي.. داخليًا يزداد المجتمع الأمريكي انقسامًا على انقسامه وتمزقًا على تمزقه بين يسار صاعد عالميًا ويمين يتحسس طريقه دون إدراك لطبيعة التغيير القادم؛ خارجيًا ومهما احتفظت واشنطن بقوتها فإن التراجع يبقى السمة الأساسية للقوة الأمريكية على مستوى العالم كله.
2009.. عام الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان
قبل اللحظة الأولى لتوليه الرئاسة ومنذ الشروع في حملته الانتخابية تحت شعار "التغيير" كان يفرق باراك حسين أوباما بين الحربين اللتين تخوضهما واشنطن في العراق وأفغانستان بقوله عن الأولى "الحرب الاختيارية أو غير الاضطرارية" وعن الثانية "الحرب الضرورية".
ففي ساحة القتال العراقية هُيئ للأمريكيين أنهم قضوا على المقاومة وأن الأمور في سبيلها إلى الاستقرار، بينما كانت قوات الاحتلال تتبادل السيطرة على العديد من المناطق جنوبي وشرقي أفغانستان مع حركة طالبان تبعًا لما تمليه أوامر "الجنرال شتاء" ففي فصل الصيف تهيمن القوات الأمريكية وعندما تهطل الثلوج تتراجع هذه القوات وتتمركز حول نقاط محدودة بينما تهبط فيالق طالبان من الجبال مع الثلوج لأخذ أماكنهم.
لكن أوباما وبغض النظر عن تأييده من عدمه لغزو العراق لم يكن يدرك بعد السر وراء ما تحقق من تقدم أمريكي في العراق مقابل التراجع على الساحة الأفغانية؛ لذلك بدا مترددًا إزاء إعلان الإستراتيجية المثلى للقتال في أفغانستان "الحرب الضرورية" كما أطلق عليها.. وحقيقة هذا السر تكمن في أن الولايات المتحدة طبقًا لمحللين عسكريين أمريكيين لا تستطيع الفوز وتحقيق انتصار على الجبهتين في وقت واحد؛ حيث إن "تحقيق حصيلة ناجحة في المسرح الأفغاني سيتطلب تعزيزات ضخمة وسرعة انتشار، وهو ما يتحقق بتكلفة مادية وبشرية ضخمة يترتب عليها المجازفة بالفشل في المسرح العراقي والعكس صحيح، وهو ما أفصح عنه ستيفن بيدل المسئول في مجلس الولايات المتحدة للعلاقات الخارجية؛ طبقًا لما سبق فإذا أراد أوباما الانتصار على جبهة فعليه أن يضحي بالأخرى.
ظل أوباما طوال ما يزيد على عشرة أشهر حائرًا تجاه القرار المناسب بخصوص الحرب الضرورية في أفغانستان، وفي النهاية حسم أمره وأعلن إستراتيجيته الجديدة على الساحة الأفغانية، والتي تمثَّلت في ضخ المزيد من القوات الأمريكية إلى ساحة القتال؛ 30 ألف جندي أمريكي إضافي على أن تعود بعد إنجاز مهامها خلال 18 شهرًا من بداية تنفيذ الخطة، ليتجاوز بذلك عدد القوات الأجنبية في بلاد الأفغان المائة ألف جندي مع ميزانية مبدئية 30 مليار دولار.
وبالنظر إلى إستراتيجية بوش الابن في العراق فسنجد تطابقًا بينها وبين الإستراتيجية الأوبامية في أفغانستان؛ حيث تم إرسال تعزيزات تقدر بـ30 ألف جندي إضافي إلى العراق في العام 2007، وتم دعم الحرب هناك بكل ما امتلكته واشنطن من قوة، وهو ما جلب قدرًا من النجاح (غير المكتمل) على الساحة العراقية أتى على حساب التراجع على الساحة الأفغانية، كما أن إستراتيجية أوباما في العراق ما هي إلا استكمال لما بدأه بوش الابن؛ حيث إنه هو الذي وقَّع الاتفاقية الأمنية مع النظام العراقي في 27/11/2008، والتي نصت على إعادة الانتشار العسكري الأمريكي خارج المدن العراقية في الثلاثين من يوليو 2009.
مما سبق يتضح أن أوباما الذي رفع شعارات التغيير أثناء حملته الانتخابية انتهج نفس سياسات سلفه، بل حرص على استكمال الخطط والسياسات السابقة وكأنه جاء لينفذ أجندة معدة سلفًا؛ رتبت هذه الأجندة سياسة الإدارة الأوبامية تجاه كل من العراق وأفغانستان في العام السابق 2009، لكن العام الجديد 2010م سوف يُثبت نجاح أو فشل هذه السياسة، وما سيحدث في العام الجديد ما هو إلا نتاج أحداث وسياسات وإستراتيجيات وخطط العام الماضي، ويبدو ذلك جليًّا على الساحتين العراقية والأفغانية كالتالي:
أولاً- العراق:
في التاسع من مارس 2009م أعلنت قيادة الجيش الأمريكي عن عزمها على سحب 12 ألف جندي في أغسطس وفي الثلاثين من يونيو 2009م بدأ انسحاب القوات الأمريكية من المدن تنفيذًا للاتفاقية الأمنية التي أقرها ووقعها بوش الابن.
وبالرجوع إلى الجزء الخاص بالعراق من خطاب باراك أوباما في جامعة القاهرة، والذي كان يحاول من خلاله إظهار نياته الحسنة تجاه العالم الإسلامي نلاحظ تأكيده أن الشعب العراقي في نهاية المطاف في حال أفضل مما كان عليه قبل الغزو الأمريكي؛ مما يؤكد اتفاق رأيه مع سلفه بخصوص "المهمة الأمريكية" في بلاد الرافدين.
ويحاول أوباما إظهار إعادة انتشار القوات الأمريكية في العراق أو انسحابها من المدن إلى قواعدها العسكرية المجهزة في الصحراء على أنه انسحاب أمريكي كامل لتسليم البلاد إلى أصحابها كيفما أرادوا بعد أن خلصتهم واشنطن من الديكتاتور "الظالم" صدام حسين ومن "الإرهابيين" اتباع تنظيم القاعدة، لكن ثمة عدة حقائق يجب تسليط الضوء عليها لحقيقة التحركات الأمريكية في العراق 2009 و2010 تتمثل في الآتي:
- بعد إعلان أوباما أن انتهاء المهام الحربية في العراق سيكون بحلول أغسطس 2010م سوَّغ بقاءها بتغيير في مسمى وظيفتها فقط إلى قوات "تدريب ومشورة ودعم"، هذه القوات تتحرك على التراب العراقي بحرية وتفعل ما تشاء ومن ضمن ما تفعل الهجوم على أي بؤر للمقاومة حتى لو كان داخل المدن، وهكذا فإن أوباما لم يأت بجديد على أرض الواقع يختلف عن سلفه بوش بداية من الاتفاقية الأمنية وخطة الانسحاب والاحتفاظ بقوة تتراوح بين 35 و50 ألف جندي بعد انتهاء الاتفاقية الأمنية 2011م.
وكان جورج كيسي رئيس أركان الجيش الأمريكي في وقت سابق قال لـ"أسوشيتد برس": إن واشنطن قد تحتفظ بقوات مقاتلة للتدخل في العراق لمدة عشر سنوات بعد انتهاء الاتفاقية الأمنية.
والحقيقة أن واشنطن تحتفظ بقوات مقاتلة للتدخل السريع في أي دولة عربية أو إسلامية لحماية الكيان الصهيوني، وتتواجد هذه القوات في العديد من الدول العربية والإسلامية وفي قواعد الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر المتوسط والمحيط الهندي.
- تتضارب الأقوال داخل الحكومة العراقية والأمريكية على حد سواء بشأن العدد الحقيقي للقواعد العسكرية والتي تتراوح بين 150 إلى 300 قاعدة عسكرية.
- استمرار استخدام الإدارة الأمريكية في عهد أوباما لما يسمى بالشركات الأمنية والمقصود بها شركات المرتزقة ومنها شركة بلاك ووتر؛ حيث إن الإدارة الأمريكية مضطرة لاستخدام مثل هذه الشركات بهدف اتخاذها كدروع تحفظ ما تبقى من هيبة أقوى جيوش العالم والحفاظ على الاستمرار في حربي العراق وأفغانستان؛ حيث تستنزف القوى البشرية العسكرية بشكلٍ كبير وبعد أن أسقط القاضي الفيدرالي الأمريكي التهم عن عناصر بلاك ووتر المتهمة بارتكاب مذبحة في العراق في أول أيام العام الجديد واستمرار استخدامها في العراق يتضح أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تحترم الإنسان العراقي بأبسط المعاني مثلها في ذلك مثل سابقتها تمامًا.
- وفي تقريرٍ لجماعة حقوق الإنسان "عراق بودي كاونت" قالت الجماعة الحقوقية إن عدد القتلى من المدنيين في العراق عام 2009 بلغ 4497 حتى 16 ديسمبر وهو أقل حصيلة قتلى منذ الغزو عام 2003 وأقل من نصف الذين قتلوا في عام 2008 وعددهم 9226، لكن التقرير لاحظ اتجاهات تبعث على القلق مثل زيادة حصيلة القتلى من التفجيرات الكبيرة خلال عام 2009، إذ إنها تسببت في سقوط أكثر من 50 مدنيًّا في كل منها وفي عام 2008 قتل 534 شخصًا في تسع هجمات مقارنة مع 750 شخصًا قتلوا في ثماني هجمات في العام 2009.
واستمرت الهجمات داخل بغداد وخارجها؛ حيث قتل العشرات في آخر تفجيرات للعام 2009 في الأنبار، مما يعزز المخاوف من أن العنف سيتصاعد في العام الجديد 2010 قبل الانتخابات العامة في 7 مارس وما بعدها مع ما يقال إنه إيقاف القوات الأمريكية للعمليات العسكرية بحلول الخريف والانسحاب المزمع في 2011، وهو ما يؤكد بحد ذاته أن العام 2010 سيشهد المزيد من العنف وعمليات المقاومة في العراق.
ثانيًا- أفغانستان:
في أفغانستان وبعد حيرة طويلة قرر أوباما دعم القوات الأجنبية لتحقيق الانتصار في الحرب الضرورية، وتمثلت إستراتيجيته في إرسال تعزيزات قوامها 30 ألف جندي إضافي تنجز مهمة الانتصار خلال 18 شهرًا.
وكان احتواء استراتيجية أوباما على موعد لانسحاب القوات يبدأ من منتصف 2011 وحتى 2012 له مدلولاته السلبية للأصدقاء والأعداء مثلما قال السيناتور جون ماكين؛ حيث يعطي انطباعًا بأن واشنطن هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في قرارات الحرب والانسحاب دون مراجعة الحلفاء، كما أنه يؤكد الخوف الأمريكي من استمرار الحرب لفترة أطول قد لا تتحملها الدولة الأمريكية وحلفاؤها على حد سواء وهو ما يفيد بوجود إحساس بعدم القدرة على تحقيق النصر في فترة زمنية وجيزة أي شعور بفشل العملية قبل خوضها.
أغمض أوباما عينيه واختار إستراتيجيته في أفغانستان رغم كل شيء كان يريد التأكد من سلامة النظام السياسي في بلاد الأفغان كان يتمنى أن يخوض العمليات الجديدة من على أرض سياسة ثابتة وكابول، وهو ما لم يحدث، لكن يبدو أنه لا يوجد حل آخر إلا المواجهة فغض بصره عن رئيس نجح بالتزوير في انتخابات الرئاسة لأنه ببساطة لا يوجد بديل أفضل؛ حيث اكتشف أوباما حقيقة الواقع السياسي في أفغانستان والتي لا يريد مواجهة نفسه بها وهو أن ثماني سنوات من الاحتلال الأمريكي صنعت أكثر النظم فسادًا في العالم بينما لا يمكن الاعتماد على شركاء جدد في ظل تأزم الموقف الأمريكي وحالة الحرب، لم يفكر كثيرًا ونسخ خطة سلفه في العراق ليطبقها في أفغانستان.
وهو ما يؤكد أن الأمريكيين كنخبة حاكمة لا تتعلم من دروس التاريخ، بينما تنظر للجغرافيا ودرس التاريخ ها هو درس فيتنام؛ حيث نفى أوباما تمامًا أن تكون أفغانستان فيتنام أخرى واستند في ذلك إلى أنه لم يكن لواشنطن حلفاء في فيتنام وتناسى أن الحلفاء يحاربون مع واشنطن في هذه الحرب منذ ثماني سنوات دون جدوى، وأن الحرب لم تبدأ الآن وحسب، كذلك اعتمد على أن الشعب الفيتنامي كان يحارب الأمريكيين؛ حيث إنه مؤمن بقضية مصيره وأغفل أن الشعب الأفغاني كذلك بل ويتآزر معه الشعب الباكستاني، خاصةً بعد أن امتدت الحرب لتشمل باكستان أيضًا.
ومنذ أن بدأت استراتيجية أوباما في التنفيذ لم يسمع أحد عن تقدم واضح أو حاسم بأي شكل لصالح الأمريكيين بل ويرتفع عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية وحلفائها، إضافةً إلى سقوط أسرى، ما يدل على تطوير طالبان لتكتيكاتها القتالية واستيعابها للتعزيزات الأمريكية ولاستراتيجية أوباما الجديدة وينبئ بأن العام الجديد 2010 سوف يكون وبالاً على الولايات المتحدة في أفغانستان، كما سيكون كذلك أيضًا في العراق.
تعليقات
إرسال تعليق