القائمة الرئيسية

الصفحات

 

الثمانينات والتسعينيات.. مبهرة حقًا كأنها عالم ساحر حيث عاش فيه جيل لا يتكرر بسهولة، كانت سنوات زاهرة يشعر معها المرء وكأن الفيلسوف الشهير فرانسيس فوكوياما كان يقصدها عندما كتب كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".

التسعينيات عقد ثمين للغاية حيث انتهت كل القضايا والمشكلات والآفات، وعاشت الأرض في سبات، على الأقل هنا في أرض النيل والأهرامات، لم يكن لدى المصريون سوى اللهو في أريحية ومتابعة الإعلانات قبل المسلسلات، لم يعد هناك ما يزعج الزعامات، كل القضايا أُخمدت وانتهت الحروب الساخنة والباردة.

شهد الاقتصاد العالمي انتعاشة كبرى، وانتهى خطر الكفر والإلحاد بعدما سقطت موسكو بأسلحة أميركا والجهاد الذي أسقط الاتحاد، يا له من انتصار عظيم، مثل نهاية حقيقية لانتصار قوى الخير على قوى الشر.. لا أظن أن هناك نهاية للتاريخ أفضل من ذلك، وما كان عنوان للحقبة أفضل مما اختار "فوكوياما".

صحيح لم تمسسنا ليبراليته من قريب أو بعيد، لكننا كنا ضمن حلف المنتصرين، وكنا نشعر بذلك جيدًا.. استرخاء شديييد وسط جلبة العالم والضجيج، كانت تشغل المصريون أمور أكثر أهمية من تلك التي تشغل الليبرالية الأمريكية، والثورة الصناعية الصينية، ونهضة اقتصادات النمور الآسيوية.. لا لا لا.. بالتأكيد تشغلنا امور أهم بكثييير من هذه الترهات والتفاهات، فقد انشغل الشعب المصري العظيم بالتحوّل من اشتراكية مهترئة إلى رأسمالية بدائية في أقل صورها بهاءً.

كانت هناك قضايا أكثر تعقيدًا تشغل العقل المصري الجبار، إذ كنا نفكر كيف نخلع "الكستور" ونرتدي "الترينج" بعيدًا عن مقارنة السجائر المحلية بالمستوردة، أو مقاربة الفول والممبار وعلاقتهما بالكافيار.. لقد انبهرنا بصور الحلم الأمريكي المختار وميّزنا بين مرحلة "ويمبي" و"ماك" ومن مرحلة "باتا" إلى "نمور أميجو".. هكذا أعلنا انتصارنا بكل قوة وحمية وغرور لن ينتصر علينا الأشرار أيًا كانوا وأيًا كانت قوتهم "أبوالغضب" و"المزدوج" أو "شريدر" و"كرعون" أو أيًا من كانوا فنحن دائمًا ننتصر معنا "مازنجر" و"سلاحف النينجا" و"غريندايزر" وغيرهم حلفاؤنا كثر لا عد لهم ولا حصر هنا.

غيابنا عن أمور العالم الآخر، أي العالم من حولنا هذا البعيد السحيق عنا، لم يعد يهمنا في شيء، نحن هنا محققين الاكتفاء الذاتي من القوة المعنوية، ربما المادية أيضًا حتى لو.. حتى لو شعر بعضنا بالضيق أو الألم أو أي شيء سلبي، فالحقيقة أن هؤلاء بلهاء، وألمهم وحسراتهم لن تمنعنا عن اطمئناننا الذي فاض وفاض حتى غمر القلوب وأغشى العيون.

فرحة ونشاط.. همة رغم بعض الإيعاء.. تحول الجميع إلى موظفين ذهابًا وإيابًا.. الجميع يعد القروش والجنيهات، نعم ولم لا فقد فات ما فات وهيهات أن تعود بنا الأيام للحروب والترهات لقد حققنا السلااااااااام، السلام العادل والشامل لنا وللمنطقة بأسرها وللعالم الحزين أيضًا.. ننجح دائمًا في إضحاك العالم ورسم البسمة على وجوه البشر من كل شعوب الأرض.

"ينهض المرء من نومه فجأة ثم يغفو فجأة والغفوة تسحب أخرى فيناااااام".. قالها عجوز يعاني من ضيق في التنفس ثم سكت فسأله من حوله "ماذا بعد ؟" وعندما لم يرد انصرفوا جميعًا إلا واحدًا قرر أن يستفز الشيخ ليُكمل حديثه فضربه ضربة خفيفة على كتفه ضاحكًا، فإذا بالرجل يسقط ميتًا.

لقد بكينا جميعًا على فراق الشيخ المتوفي، كان في حارتنا وكانت له طرائف جميلة، وذكريات حلوة، وبكى الجميع الرجل، لكننا عدنا وعشنا أحلامًا جديدة قديمة على مقهى الحلمية وكل حلمية، وفي جمهورية زفتى، وكل جمهورية زفتى، كنا نُقلب الزمن بين 3 قنوات، تحولت إلى 9 ثم دخلنا عصر الفضائيات وشاهدنا انطلاق النايل سات، انظر كيف صعدنا إلى الفضاء؟.

لم نكتف بالشكولاتة والشمعدان وتناول الآيس كريم ومضغ اللبان، فقد شاركنا في كل مسابقات الإعلانات، وشاهدنا كل حفلات نصر أكتوبر المجيد وتابعنا كل الأفلام والأغاني وأمجاد الذكريات، ونحن نأكل المقرمشات، على وقع دربي الكرة المصرية، والتشجيع أثناء المباريات المضحكات المبكيات.

مع الوقت ازداد رسوخ الناس على الاطمئنان والشعور بالأمان مع النيل الذي أصبح خاملًا ناعسًا بعد بناء السد العظيم، وكان روح المصري هدأت مع هدوء مياه النيل التي كانت تهيج وتفيض، وتعود للهدوء، أصبح طبع الناس الهدوء.. يا سلاااااام على الهدوء والحياة الساكنة السالمة.

استفاق شيخ من موته.. فذهل الناس هل معجزة ؟ هل مر من هنا المسيح ؟ هل يستفيق ميت من ميتته ؟ قال فمه مسكون بخيوط العنكبوت: إنكم تزرعون الأوهام تجيدون زرعها وحصادها.. تجيدون الاستغراق في الأحلام.. ثم أشار بإصبعه ومات.

مع نهاية الثمانينيات اندلعت انتفاضة الحجارة على بُعد مئات الكيلومترات من مساكن القاهرة، كان أطفال الفلسطينيين يواجهون آلة الحرب بالحجارة، وما لبثت أن وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها حتى انعقد مؤتمر مدريد للسلامن والذي كان تمهيدًا لاتفاق أوسلو، وتأسيس وضع جديد في المنطقة والعالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لتُعلن حرب جديدة في الخليج الحرب الثانية حيث ضرب العرب العرب، ليُحاصر العراق، ويُعطى النفط مقابل الغذاء، وتُحاصر ليبيا، ومن حصار لحصار لم تكف دعوة في أغنية لمحاصرة الحصار حتى وإن لم يكن هناك مفر.

ذُبح المسلمون في البوسنة والهرسك واغتُصبت المسلمات، وغضب المصريون فعلًا لكن غضبهم الذي لم يمنع سقوط سراييفو لم يُجد حين سقطت بغداد، لكنهم لم يتأثروا وواصل الناس الذهاب والإياب، إنهم قوم جبارين لم يتأثروا حتى الزلزال، ولم ترهبهم صواريخ كروز في سماء العراق، ولم يفكر أحد في أنها ربما تحيد وتسقط في الوراق.

قال روجيه جارودي في كتابه "حفارو القبور" إن الانتصار الأمريكي العام 1992 في العراق شهد اكتمال العمل الذي بدأ العام 1492 في غرناطة، إنه العام الذي توّج الولايات المتحدة الأمريكية ملكة على العالم، وكان شاهدًا على انتصار قيم السوق.

_________________

نشرتُ المقال السابق في تطبيق أوبرا نيوز بتاريخ 15 أبريل 2020

https://www.operanewsapp.com/eg/ar/share/detail?news_id=0eff1c63e4a32555044d16237756f34a&news_entry_id=s12698575200415ar_eg&open_type=tanscoded&request_id=a0916433621e091d1304d018adc0e59dde36fb4a&from=publisher&fbclid=IwAR0fvoxWbj131Ti0jFNvsvCJEP_fJl56wgjIpcP-7QfG2kJ9JRdGFMLtEd4


author-img
لكل منا طيفه الذي ما إن يبدأ أولى خطواته في الحياة ويمر بتجاربه الخاصة يتحوّل إلى أطياف متعددة نابعة من ذلك الطيف الأول، هنا أشارككم أطيافي وأحلامي وعوالمي.

تعليقات