القائمة الرئيسية

الصفحات

صراع «الصهيونيات».. الحرب في الداخل الإسرائيلي

 


عبدالعظيم الأنصاري


يعيش الكيان الصهيوني على صفيح ساخن منذ عدة أعوام، وليست حرب السابع من أكتوبر إلا تجليًا

من تجليات حالة الانقسام غير المسبوقة داخل المجتمع الإسرائيلي، كما أنها مقدمة لتشظي الكيان

من الداخل.

بإلقاء نظرة عابرة على العشر سنوات الأخيرة، نجد أن الكيان مرّ بأزمات سياسية طاحنة، انعكست

على حل الكنيست، وإجراء انتخابات مبكّرة ست مرات متتالية، كانت آخر انتخابات عادية

عام 2015، والتي شكّل فيها بنيامين نتنياهو الحكومة بقيادة حزب الليكود، والتي تصمد

حتى نهاية مدتها، فأجريت انتخابات مبكرة أبريل 2019، وبعدها بأشهر أجريت انتخابات

سبتمبر 2019، والتي فاز فيها حزب أزرق أبيض بقيادة بني غانتس، ليعود نتنياهو مجددًا

في انتخابات مارس 2020، ثم تعاد الانتخابات المبكرة مارس 2021، ليحتفظ نتنياهو

بمنصبه مجددًا، لتُعاد يونيو 2021، برئاسة يائير لابيد، الذي يخسر لصالح نتنياهو في

انتخابات مبكرة أخرى نوفمبر 2022.

الشيء الوحيد الذي يُبقي على تماسك الحكومة الإسرائيلية الحالية هو استمرار الحرب في غزة، ففور

إعلان وقف إطلاق النار في غزة، سيبدأ إطلاق نار من نوع آخر بين الإسرائيليين بعضهم البعض،

فالحرب في غزة هي التي أوقفت الاحتجاجات الداخلية المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة، لكن حتى

حرب غزة لن تنجح طويلًا في وقف الاحتراب الداخلي الإسرائيلي، بل إنها تُسهم بالفعل في تأجيجه،

خاصة مع عودة الاحتجاجات إلى تل أبيب مجددًا، للمطالبة برحيل نتنياهو، ملتحمة مع احتجاجات

أهالي الأسرى، وعلى أية حال فمن المستحيل أن يُكمل نتنياهو مدة ولايته والتي يُفترض أن تنتهي

عام 2026، كما لا يبدو أن حالة الانقسام الإسرائيلية العميقة تلك ستتوقف عند مجرد إجراء

انتخابات مبكرة كل بضعة أشهر، لا يستوي ذلك الوضع مطلقًا مع أي دولة في العالم تُريد لنفسها

الأمن والاستقرار، خاصة إن كانت تقع باستمرار تحت التهديد الخارجي، ما يؤكد أنها تحمل جينات

الانهيار في داخلها.

تعود جذور الصراع إلى جذور الصهيونية نفسها، التي تنقسم إلى «صهيونيات» متصارعة، وهو

الصراع الذي لخصه حاييم وايزمان، أحد زعماء الصهيونية العالمية بعد الحرب العالمية الأولى،

بين مفهومي "التعبير عن الذات" و"مجرد الإنقاذ والنجاة"، والذي جمع بين المفهومين في آن معًا،

أي تعبير اليهودي عن ذاته ومعتقداته، إضافة إلى النجاة بصناعة وطن بعيدًا عن الاضطهاد،

وهو ما يراه برنارد أفيشاي انتقادًا لصهيونية ثيودور هرتزل نفسه.

يتحدث الأكاديمي الإسرائيلي برنارد أفيشاي، عن هذا الصراع الصهيوني - الصهيوني، في مقال

له بمجلة هاربر الأمريكية الشهرية، تحت عنوان "حرب إسرائيل في الداخل.. عن التاريخ المدمر

للصهيونية الدينية"، ملقيًا الضوء على جماعة غوش إيمونيم، عائدًا بالزمن إلى أغسطس 1975،

عندما شهد مظاهرة حاشدة لأتباع الجماعة الصهيونية الدينية، ضد هنري كيسنجر وزير الخارجية

الأمريكي آنذاك، الذي كان يسعى جاهدًا لإتمام اتفاق مؤقت بين مصر والكيان الصهيوني، مقترحًا

انسحاب إسرائيلي من قناة السويس مقابل محطات إنذار أمريكية وخطوات مصرية مختلفة نحو

التطبيع، وبدا رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين مستسلمًا للضغوط الأمريكية، وبمباركة

كيسنجر نجح رابين وأنور السادات، في تجاهل مصير الفلسطينيين - بحسب برنارد - ومع كل

ذلك، كان ينظر أتباع غوش إيمونيم إلى الانسحاب من سيناء، وأي انسحاب بوجه عام، باعتباره

نذيرًا لما سيحدث في "يهودا والسامرة" الضفة الغربية كما يسمونها.

يرى برنارد أن "إسرائيل" بدأت كدولة علمانية رائدة، وأنها تنتهي نهاية دينية دراماتيكية، وتذكر

هتاف جماهير غوش إيمونيم لكيسنجر "أيها الفتى اليهودي.."، ليتخلله شعور بحدوث نقطة

تحول فارقة، ويوضح ذلك بحديثه عن أن تشجيع الحكومة الإسرائيلية مع الاستيطان في الأراضي

المحتلة، ولّد حماسة روحية مثقلة بالتصوّف الديني المبتذل على حد تعبيره، جعلت من جماعة

غوش إيمونيم مركز الأحداث.

هاجم برنارد الصهيونية الدينية، ومحاولتها الأخيرة في السيطرة على السلطة القضائية عبر

إصلاحات نتنياهو التي باءت بالفشل حتى الآن، لكنه دافع عن صهيونيته العلمانية، مدعيًا

بين السطور أن فيها السلام، متناسيًا أن صهيونيته العلمانية تلك، ما كانت لتكون من الأساس

إلا باستخدامها للأدبيات الدينية اليهودية منذ اللحظة الأولى مثل "الأرض المقدسة" و"شعب الله

المختار"، وغيرها، من تعبيرات دينية بحتة لا تمت بصلة إلى العلمانية في أي ثوب، فضلًا عن

أن تلك الصهيونية هي التي ارتكبت المجازر في حق الشعب الفلسطيني، سكان الأرض

الأصليين، وطردت وشردت الملايين منهم حول العالم.

إن ما سبق مجرّد جانب من حالة التشظّي الإسرائيلي الداخلي الذي يعيشه الكيان، والذي

سيتجلى أمامنا على شاشات التلفزة فور إعلان وقف إطلاق النار في غزة.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر في صحيفة الكرامة بتاريخ 29 فبراير 2024









author-img
لكل منا طيفه الذي ما إن يبدأ أولى خطواته في الحياة ويمر بتجاربه الخاصة يتحوّل إلى أطياف متعددة نابعة من ذلك الطيف الأول، هنا أشارككم أطيافي وأحلامي وعوالمي.

تعليقات