عبدالعظيم الأنصاري
ربما إذا عُدنا بآلة الزمن إلى الوراء أكثر من مائة عام قبيل الحرب العظمى أو ما عُرف لاحقًا بالحرب العالمية الأولى، سنرى أن زعماء العالم حينهًا يتقدمون بخطى حذرة نحو الهاوية وكأنهم نيامٌ، وربما نرى نفس الشيء قبيل الحرب العالمية الثانية التي لم يفصلها عن الأولى سوى عقدين من الزمن.
تحت عنوان "نحو الهاوية" كتب إد ماكنالي طالب الدكتوراه وعضو اللجنة التنفيذية الوطنية لحملة التضامن مع فلسطين، في مجلة تريبيون البريطانية مقالًا ألقى فيه المزيد من الضوء على دراسة المؤرخ البريطاني كريستوفر كلارك الصادرة عام 2012 بعنوان "السائرون أثناء النوم: كيف دخلت أوروبا الحرب عام 1914"، والتي أدخلت مصطلح "السائرون أثناء النوم" إلى عالم السياسة المعاصرة.
على سبيل المثال صرحت أنجيلا ميركل في دافوس 2018 بالقول: "مثل السائرين أثناء النوم انزلق سياسيو ذلك العصر في مأزق رهيب .. واليوم علينا أن نسأل أنفسنا: هل تعلمنا حقًا من التاريخ أم لا؟"، وهتف فرانسوا هولاند: "لا يمكننا أن نكون سائرين أثناء نوم"، وهو ما ردده لاحقًا خليفته إيمانويل ماكرون.
وقدم بول شرودر، الباحث الأمريكي المحافظ الراحل، تدخلًا أكثر إبداعًا سلط الضوء عليه بيري أندرسون في كتابه "مجادلة الكارثة: سداسية حول الحرب العالمية الأولى"، إذ قال شرودر لقد دعت النخب إلى كارثة عام 1914 وهم مغمضي العينين، فقد وجد شرودر أن رجال الدولة في أوروبا تصرفوا بطريقة مألوفة للجميع في الحياة اليومية، يتصرفون بعيون مفتوحة وثابتة على هدف ذي غاية سامية، منتبهين لردود أفعال الآخرين بقدر ما قد تؤثر على هذا الهدف، ولكن بعيون مغلقة تمامًا عن العواقب الأوسع لمثل هذا العمل على المجتمع الأوسع والنظام العام الذي قد ينتمي إليه.
جاء تقبّل بعض قادة أوروبا الغربية لرواية "السائرون نيامًا" على خلفية تصاعد التوترات مع روسيا، والتي بلغت ذروتها بضم الأخيرة لشبه جزيرة القرم عام 2014. وقد امتد تأثيرها إلى هذا العقد. في حديث خاص مع الصحفيين، لجأ المستشار الألماني أولاف شولتز إلى الكتاب لإضفاء صفة الشرعية على تحذيره في الأشهر التي أعقبت غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022.
أجرى كلارك نفسه مقابلة مع صحيفة الغارديان من برلين على خلفية هذه التقارير، تضمنت مداخلته تصحيحًا ذا شقين قيّمين، أظهر أن اللحظة الأوروبية لم تكن مماثلة لما كانت عليه قبل قرن أو نحو ذلك. فمن ناحية، فيما يتعلق بكيفية حدوث هذا الغزو الجديد، كان فلاديمير بوتين هو الفاعل المباشر الوحيد، مما جعل الوضع خاليًا من تعقيدات عام 1914 متعددة الأقطاب وتعدد المسؤوليات. من ناحية أخرى، كانت تشبيهات الاسترضاء التي يعشقها الصقور في العواصم الغربية هراءً، إذ من الواضح أن بوتين ليس هتلر.
قبل "العملية العسكرية الخاصة" الروسية في الشرق، نظر كلارك بعين الرضا إلى الترحيب الحار الذي حظي به الكتاب بين قطاعات من النخبة الأوروبية، إذ كانوا "يميلون إلى استخدام حججه، إلى جانب مصطلح "السائرون أثناء النوم"، كوسيلة للدعوة إلى الحذر والحيطة.
يقول إد إننا نجد أن تشجيع الليبراليين لإعادة تسليح ألمانيا - بذرائع "وقائية" للتصدي للخطر الروسي - في الوقت الذي يقترب فيه حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف من السلطة، لا يوحي بأي يقظة واسعة النطاق، ما يؤكد نظرة كلارك عن السير أثناء النوم نحو الهاوية.
أما عن السياسة الأمريكية تجاه غزة، فإنها كما قال أندرسون قبل ما يقرب من عقدين مازالت غير قابلة للصياغة "وفقًا لحسابات عقلانية للمصلحة الوطنية"؛ إن الإمبريالية تُساعد بالفعل على تفسير الدعم الأمريكي المتعصب لإسرائيل، ودعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة، لكن هذا يحدث بحسب رؤية مدروسة لصناع قرار أمريكيون يتبعون بعيون مفتوحة منطقًا يبدو متماسكًا داخليًا للإمبراطورية، ولكن بعيون مغمضة عن العواقب الأوسع المتمثلة في رد الفعل العكسي وهزيمة الذات، والتشتيت والإرهاق، وربما حتى الكارثة.
في النهاية أكد إد أن هناك إدراك شعبي مشترك لدى تيار واسع بأن الزعماء يقودوننا إلى كارثة؛ إن الغرب بسياسته العنصرية الفجّة التي تأتي في كثير من الأحيان على حساب شعاراته وقيمه التي رفعها طويلًا، ستُفتت بنيته وتقلب موازينه سواء بالإصرار على تكبيل الروس، أو تحجيم الصين، أو إطلاق الحبل على الغارب للإبادة الجماعية في غزة، وديمومة الهيمنة على الديكتاتوريات لاستعباد الشعوب، لن يؤدي السير أثناء النوم أو إغماض العيون عن تبعات المواقف والسياسات الاستراتيجية بعيدة المدى إلا إلى الهاوية، وما أدراك ما هي.
تعليقات
إرسال تعليق