على غرار ساراتوجا الأمريكية
خاركيف.. لحظة تغيير دفة التاريخ في أوكرانيا
عبدالعظيم الأنصاري
على مر التاريخ تقع حوادث ربما يراها البعض صغيرة لكنها قد تُغير مسار التاريخ، ما يتمثّل بوضوح في الانتصارات السريعة الخاطفة غير المتوقعة، مثل ذلك الانتصار الذي حققه الجيش الأوكراني في خاركيف سبتمبر 2022.
يُشبه ذلك.. الانتصار الذي كان بمثابة إعلان عن أفول نجم الإمبراطورية البريطانية العظمى التي لا تغرب عنها الشمس، وبزوغ قوة جديدة في الغرب.
خريف العام 1777 في أجواء مشابهة لما يعيشه العالم اليوم، وفي بقعة أخرى بعيدة في أقصى الغرب، في العالم الجديد، بدت الإمبراطورية البريطانية وكأنها لا تُقهر، بعد عامين كاملين من الثورة الأمريكية، بدا الجيش البريطاني الواثق مستعد لسحق التمرد، واستعادة الحكم الإمبراطوري.
في المعارك الكبرى، يكفيك خطأ واحد فقط لتدفع ثمن الهزيمة بالكامل؛ تقدّمت قوة بريطانية من كندا بقيادة الجنرال جون بورغوين، نحو الجنوب وتحديدًا في بلدة تُدعى ساراتوجا شمالي ولاية نيويورك لتُفاجأ بجحافل الثوّار الأمريكيين الذين حققوا انتصارًا سريعًا وغير متوقع بالمرة.
يقول جيان جينتيل، نائب مدير قسم أبحاث الجيش الأمريكي في مؤسسة راند، ورفائيل إس كوهين، مدير برنامج الاستراتيجية والعقيدة في مشروع سلاح الجو التابع لنفس المؤسسة الأمريكية، في مقال تحليلي لهما في مجلة فورين بوليسي، إن الانتصار في ساراتوجا كان نقطة تحوّل في الحرب غيرت مجرى التاريخ، حيث أدى إلى استسلام الجنرال البريطاني بورغين للجنرال الأمريكي هوراشيو جيتس في 17 أكتوبر 1777، إلى خفض القوة القتالية الإجمالية للجيش البريطاني في أمريكا الشمالية بنحو الربع، وأُجبر البريطانيين على تحويل استراتيجيتهم وتركيزهم إلى الجنوب.
أعطى النصر الأمريكيين ثقة أكبر للاستمرار، وأظهر للعالم أنهم قد يكونون بالفعل قادرين على تحقيق هزيمة صريحة للبريطانيين الأقوياء.
رغم أن الحرب استمرت لأربع سنوات أخرى، إلا أن انتصار الجيش الأمريكي الثوري في ساراتوجا كان البداية الحقيقية لنهاية الحكم الاستعماري البريطاني، وبداية سلسلة من الانتصارات الأمريكية التي بلغت ذروتها في تحقيق الاستقلال الأمريكي عن بريطانيا.
ما يبدو أنه يتحقق الآن في أوكرانيا، وتحديدًا شرق خاركيف، حيث يصنع الأوكرانيون لحظتهم الخاصة الفارقة لتغيير دفة التاريخ، وتحقيق معادلة بداية نهاية القوة الروسية في بلدهم الصغير، وتبدو لحظة الانسحاب الروسي من خاركيف خريف 2022، قريبة للغاية من لحظة الهزيمة البريطانية في ساراتوجا 1777، إذ حققت الحملة الأوكرانية نجاحًا مذهلا وغير متوقع، وإذا جرى استغلاله بشكل صحيح، يُمكن أن يُثبت أنه ليس مجرد انتصار مفاجئ خارج سياق المعركة، وإنما نُقطة تحوّل دراماتيكي في سير الحرب، نحو نتيجة لم يكن يتوقعها الكثيرون في الأيام الأولى للغزو الروسي للأراضي الأوكرانية فبراير الماضي.
الجيش الروسي من حيث ترتيب القوى العالمية، يُعد الجيش الثاني على مستوى العالم كله بعد الولايات المتحدة الأمريكية، يمتلك قدرات تدميرية هائلة تكفي لتدمير الأرض بمن عليها.
يعتمد الجيش الروسي منذ الحقبة السوفيتية على استراتيجية "اليد الميتة"، في حالة ما إذا دخلت جيوش الأعداء الأراضي الروسية، واجتاحت العاصمة موسكو، فإن اليد الميّتة تعمل بشكل تلقائي، فتنطلق صواريخها النووية نحو الأهداف المحددة لها سلفًا، لتُدمر "الأعداء" بشكل كامل.
هذا الجيش، بهذه الإمكانات، وبالأرقام، أكبر بكثير من أن تهزمه دولة صغيرة مثل أوكرانيا، سواء من حيث حجمها، أو مساحتها، أو حتى إمكاناتها العسكرية والتقنية، وهي نفس العلاقة التي جمعت بين القوات الملكية البريطانية، وقوات الثوّار الأمريكيين في نهاية القرن الثامن عشر، وهي نفس العلاقة التي جمعت بين الجيش الأمريكي الأقوى عالميًا ومقاتلي حركة طالبان في أفغانستان في حرب امتدت على مدار 20 عامًا أوهمت فيها واشنطن العالم بأنها انتصرت، لتعود في النهاية حركة طالبان إلى حكم أفغانستان كما كانت بل وأكثر قوة ونفوذًا.
المسألة هنا لا تكمن في ترتيب الجيوش على موقع جلوبال فاير الشهير، ولا الإمكانات العسكرية التقليدية أو غير التقليدية، ولا أسلحة الدمار الشامل حتى، ولا أحد يُمكن أن يُنكر مساعدات حلف الناتو السخية للجيش الأوكراني في مواجهة روسيا، أو يُنكر المساعدات الفرنسية للثوّار الأمريكيين في مواجهة بريطانيا العظمى، ولا أحد يُمكنه أن يُنكر استفادة حركة طالبان من وعورة تضاريس أفغانستان ومُناخها، لكن خلف كل ذلك كان إصرار فولوديميرزيلينسكي على البقاء والمقاومة ورفض اللجوء إلى دولة أخرى، وإصرار ومثابرة الثوّار الأمريكيين على تحقيق الاستقلال، وإيمان مقاتلي طالبان بالانتصار إن عاجلا أو آجلًا.
_______________________________
تعليقات
إرسال تعليق