عبدالعظيم الأنصاري
لا شك أن حسابات جورج بوش الابن، كانت مختلّة سواء في تدخله السريع في أفغانستان، أو تدخلّه المخادع في العراق، والأمر هنا يتعدّى الخلل الاستراتيجي والعسكري إلى الخلل الفكري في المقام الأوّل، ربما تمنح بعض المنصاب الكبرى كمنصب رئيس أكبر دولة في العالم، بعض الفرص النادرة لتغيير دفة التاريخ، سواء بإقامة وإرساء السلام، أو بسفك المزيد من الدماء، وهنا يكمن الخلل الذي نتحدث عنه، فقد ألقى التجلي الحضاري الغربي بظلاله الدموية على كل من أفغانستان والعراق، بطريقة عبثية تعكس من بين ما تعكس من القيم الحضارية الغربية العظيمة قيمة "الاستهتار بحياة الإنسان" - إن جاز التعبير - ذلك الاستهتار الذي تجلّى في تشكيل تحالف دولي ضخم لشن حرب خارج الشرعية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، في تحدٍ سافر من واضعي النظام للنظام نفسه الذي وضعوه بأيديهم.
الاستهتار والعبثية من بين أبرز سمات الحضارة الغربية في الواقع، إذ يتجلى الاستهتار بحياة البشر في ما رأيناه من انتهاكات غريبة وشاذة وغاية في البشاعة والإجرام والسادية انتشرت بين الجنود الأمريكيين ومقاتلي شركاتهم الأمنية في البلدين، كما تتجلى العبثية في إفلات بوش بعد كل حساباته المختلة، من أي مسائلة تذكر، في الوقت الذي حوسب فيه سلفه بيل كلينتون لكذبه بشأن إقامة علاقة جنسية مع مونيكا ليونسكي.
وبعيدًا عن محاولة التقييم الأخلاقي للجُرم، فعلى المستوى الاستراتيجي واقعيًا لم تجد واشنطن ضالتها في عدو حقيقي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ورأت العدو في العالم الإسلامي، الذي لم يكن يتخذ من الولايات المتحدة الأمريكية عدوًا بقدر ما كانت تخرج منه محاولات لما يُمكن أن يُسمى "مقاومة" أو دفعًا للظلم الواقع على الشعوب الإسلامية جرّاء السياسة الأمريكية الرعناء التي لم تدرس الواقع الاستراتيجي الأمريكي والمخاطر المحدقة به بالعمق الكافي، وارتأت في تهديدات وخطابات العرب والمسلمين الغاضبة سلاحًا يُهدد هيمنتها العظمى على العالم، ظنًا أنها تربعت على عرش التاريخ وليس على عرش العالم، ما انعكس في مقولة فرانسيس فوكوياما عن "نهاية التاريخ".
اختار الأمريكيون سياسة "احتواء الصين"، بينما اختاروا الصدام المباشر مع "الحضارة الإسلامية" وفقًا لنظرية صمويل هنتنغتون عن "صراع الحضارات"، ومن "نهاية التاريخ" إلى "صراع الحضارات"، اتخذ العم سام أولى خطوات السقوط، والانهيار التدريجي البطيء الذي دائمًا ما يُصاحب الإمبراطوريات الكبرى من أوج عظمتها إلى انهيارها التام.
اختلفت نتيجة التدخل الأمريكي في أفغانستان عنها في العراق بعض الشيء، إذ تشابهت مشاهد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان إلى حد كبير مع مشاهد الانسحاب الأمريكي من فيتنام، انسحاب قوة احتلال غاصبة مُجبرة تجر أذيال الخيبة في مواجهة مقاتلي المقاومة أيًا كانت خلفيتهم الفكرية، فيما بعد نجحت واشنطن في ترويض فيتنام وإدخالها إلى الحظيرة الغربية بنجاح، أما بالنسبة لأفغانستان فقد وقعت في قبضة مقاتلي حركة طالبان الذين مازالوا يبحثون عن طريق آمن لاستقرار بلدهم واستقلاله وفق رؤيتهم الأصولية للإسلام، وفي هذا السياق لم تتورع الحكومة الجديدة لكابول عن توجيه التهديدات العسكرية المباشرة لإيران أو لأي دولة تحاول المساس بسيادتها، لكنها في النهاية تبقى محكومة بقدراتها المحدودة على إدارة موارد البلاد، وعلى صناعة نهضة تُشبه أو تُقارب ما حدث في فيتنام بدعم أمريكي، وبهذا يُمكن أن تكون واشنطن قد فشلت نسبيًا في أفغانستان لأنها لم تنجح حتى الآن في ترويض الأفغان وإدخالهم الحظيرة الغربية بعد، رغم احتفاظها بحق ضرب بعض الأهداف داخل العمق الأفغاني عند الحاجة إلى ذلك، والتيقن من العجز الأفغاني الكامل عن الرد.
أما العراق، ورغم ما أبداه مقاتلو المقاومة العراقية من بسالة منذ بداية الغزو وحتى سنوات مضت، فإن ما حققته واشنطن مقارنة بأفغانستان يُعد نجاحًا نسبيًا، إذ يعيش العراق أزمات تلو أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، دون أن يحكمه غطاء سياسي واحد، بل تتنازعه الطوائف الشيعية والسنّية، العربية والكردية، تتنازعه القوى الإيرانية والأمريكية وغيرها، ورغم الانسحاب الأمريكي المزعوم، فإن واشنطن مازالت محتفظة بقواته في البلاد، بل ويُدافع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عن بقاء تلك القوات في بلاده، ما يوضح أن العراق مازال تحت السيطرة الأمريكية مع تخفيف حدة المواجهات بين القوات الأمريكية والمقاومين، بتقليل أعدادها، وإبعادها في مناطق نائية عن السكان، فكل ما حدث هو وضع عراقيين آخرين لتنفيذ المهام على الأرض، وإخفاء جنود الاحتلال عن الأنظار وإيهام الشعب بالاستقلال، وهو نفس الواقع المطبق في جميع الدول العربية والإسلامية.
في كل الأحوال لم تكن أفغانستان أو العراق أو غيرهما تهديدا كبيرًا للإمبراطورية الأمريكية، كما هو الحال بالنسبة للصين الآن، وهو نفس التهديد الذي ربما كان قائمًا من قبل دون أن يُعلن عن نفسه بجلاء.
منذ أكثر من عقد كنت أكتب بانتظام عن بطولات المقاومة العراقية، وحسابات "بوش" المختلة، لنلقي نظرة على الماضي بعد أن رأينا الواقع.
المقاومة العراقية تكشف لـ "بوش" حساباته المختلة![]()
|
يبدو أن الرئيس الأمريكي"جورج بوش" قد دق أول مسمار في نعش "الإمبراطورية الأمريكية العظمى" عندما وطـأت أولى قدماه أرض العراق، ظاناً أنها أرض صلبة يمكن الوقوف عليها بأمان والوثوب منها إلى أراضي أخرى لتوسيع"إمبراطوريته" وهيمنته على العالم.. ظاناً أنها بلاد اللبن والعسل وحدائق بابل ودجلة والفرات وقبل ذلك "بلاد البترول"، دون أن يقرأ التاريخ أو يعتبر بعبر الكتاب المقدس الذي درسه وتعلمه ولم يلفت نظره فيه التسامح والمحبة بقدر ما تأثر بنبوءات النبي "دانيال" وتفسيرات الجماعات "المسيحية الصهيونية" المتعصبة لها .
دائماً كانت نظرة"بوش" ناقصة لذلك جاءت حساباته ناقصة مختلة.. ثبت ذلك عندما أخذ يترنح الآن ما بين مؤتمرات دولية واتصالات مع حلفاء مؤقتون ودائمون لانتشال قدمه وقدم أكبر إمبراطورية في العالم من مستنقع العراق.. في مشهد يبدو وكأنه بداية نهاية عصر والدخول في عصر آخر، فقد أكد كثير من المحللين أن العالم مقبل على مرحلة جديدة وأكد آخرون أنه الآن وعلى أرض العراق تتشكل بداية لملامح المرحلة المقبلة.
فقد أثبت الجندي الأمريكي ضعفه أمام الجندي العربي في العديد من جبهات التدخل الأمريكي في الشئون العربية، والتي لم تتعدَ مستوى المعارك المحدودة بين عدد بسيط من الجنود الأمريكيين والمقاتلين العرب، انسحب على إثرها الأمريكيين خوفاً من السقوط في مستنقع يصعب الهروب منه، حدث ذلك في لبنان مع حزب الله وفي الصومال مع مقاتلين"محمد فرح عيديد" الإسلاميين، ولكن الآن دخلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى العراق بكل ثقلها وبذلك جاءت الفرصة وسقط الصقر الأمريكي في يد المقاتل العربي.. هناك في العراق بلاد الرافدين.
فيقول تقرير لوكالة "رويترز"- للأنباء- أن شهر نوفمبر الحالي شهد أكبر عدد شهري للقتلى في صفوف القوات الأمريكية في العراق منذ غزوه في مارس 2003، وتستعد وزارة الدفاع الأمريكية لاشتداد وتيرة أعمال المقاومة قبل الانتخابات المزمعة والتي يتوقع لها الفشل الذريع في ظل ما تشهده البلاد من حرب شرسة تضرب في كل اتجاه.
وقد ذكرت جماعات من المقاومة العراقية في وقت سابق أن عدد الجنود الأمريكيين القتلى في معارك الفلوجة فقط في أول 11 يوماً من الهجوم على المدينة وصل 400 جندي، ورغم تكذيب تلك المعلومات من قبل مسؤولين أمريكيين إلا أن الأمريكيون يعترفون بأن هناك مشكلة ضخمة تواجههم في العراق.
وأفادت إحصاءات وزارة الدفاع الأمريكية بأن 109 جنود أمريكيون على الأقل قتلوا في العراق هذا الشهر، وسقط قرابة نصفهم في الفلوجة فقط، وفي الحرب المستمرة منذ 20 شهراً لم يسقط من القتلى الأمريكيين في شهر واحد ما يزيد على هذا العدد سوى في إبريل الماضي الذي شهد مقتل 135 منهم، تبعاً لإحصاءات وزارة الدفاع الأمريكية، مما يؤكد تصاعد أعمال المقاومة العراقية.
وتظهر استطلاعات الرأي استعداد الرأي العام الأمريكي لتقبل استمرار تكبد القوات الأمريكية لخسائر بشرية في العراق، وقال "دانييل جور"- محلل شؤون الدفاع في معهد لكسنجتون-
"أعتقد صراحة أن المشكلة الأكبر ستكون داخل صفوف الجيش نفسه".. "نحن نحاول حالياً إعادة فرض سيطرتنا" ويشير في ذلك إلى الضغوط التي يسببها تزايد القتلى والجرحى وطول فترات الانتشار وإعادة وحدات إلى العراق بعد فترة قصيرة من إعادتها لوطنها، وإلى عدم استعداد القوات الأمريكية لمواجهة ما وراء أو ما بعد "صدام حسين"، وأضاف "جور" " بعد قول ذلك لابد أن ندرك أن إراقة الدماء ستستمر إلى حد ما والسبب الرئيسي لذلك هو أن الجانب الآخر مستعد لإراقة الدماء"!!.
هذا وتشهد العراق الآن وفي كل لحظة اشتباكات ومعارك مستمرة بين قوات الإحتلال وقوات المقاومة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر في جريدة مصر العربية الإلكترونية يوم
|
تعليقات
إرسال تعليق