القائمة الرئيسية

الصفحات

تحديات «إردوغان».. بين الانقلابات والانتخابات

 


عبدالعظيم الأنصاري

في مرحلة سابقة لم أكن أتوقع استمرار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في سدة الحكم، وفي مرحلة لاحقة لها اعتقدت أن مصيره سيكون داخل أحد السجون التركية، لقد فعل هذا الزعيم التركي ما لا يُضاهيه فيه قائد في الشرق الأوسط طوال التاريخ الحديث والمعاصر، ونجى من كل فخ استهدفه بشكل يدعو إلى ضرورة دراسته كظاهرة سياسية فريدة، والآن ينتظر تحديًا جديدًا يتمثل في الانتخابات الرئاسية المرتبقة مايو 2023، تحدٍ قد يُغير تاريخ تركيا، بل وتاريخ الشرق الأوسط.

كتبت عن التجربة التركية الكثير منذ العام 2000 بين أبحاث ومقالات وتحليلات ولفت انتباهي تحليلا عن تحديات المحاولات الانقلابية العديدة التي اجتازها إردوغان بطريقة ملفتة للنظر منذ العام 2002 وحتى الآن.

 إردوغان.. المسمار الأخير في نعش الانقلابات


04/03/2010

عبدالعظيم الأنصاري

"لا للانقلابات العسكرية".. هكذا هتف المتظاهرون الأتراك في مدينة إسطنبول، التي شهدت مثل هذه الجموع الغفيرة من الجمهور التركي بعد انقلاب 1908م الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني على يد أعضاء جميعة "الاتحاد والترقي" حينها كان مناصرو السلطان يدسون منشورات تحرِّض الجماهير على الثورة ضد "الاتحاد والترقي" قبل أن يكتشف أعضاؤها الأمر ويبلغه أحدهم وهو قره صو- أحد يهود الدونمة- رسميًّا بتنحيته عن منصبه.. هكذا كانت طريقتهم دائمًا منذ ذلك الحين وحتى نهاية القرن الماضي للتخلص ممن يقولون "نعم" لمصلحة الأمة التركية و"لا" للصهيونية "الانقلاب".

 

لكن الآن تغيَّر المشهد ظاهريًّا وجوهريًّا، فمحاولة الانقلاب الفاشلة على حزب "العدالة والتنمية" في العام 2003م وما تمخَّض عنها من مواجهة الآن بين أحفاد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وأحفاد يهود الدونمة وضع نهايةً حاسمةً للانقلابات، فلا انقلابات عسكرية بعد الآن.



ما زالت الحملة الأمنية الثانية التي تشنُّها الشرطة التركية مستمرةً؛ حيث يتمُّ القبض على ضباط كبار وصغار عاملين ومتقاعدين، بالإضافة إلى عدد من الصحفيين والناشطين بتهمة التورُّط في قضية جماعة "أرجنكون" السرية، التي سعت إلى محاولة الانقلاب على حكومة "العدالة والتنمية" بقيادة رجب طيب أردوغان سنة 2003م، وتم إلقاء القبض على ما يزيد على 70 عسكريًّا خلال اليومين الماضيين، وتمَّ توجيه الاتهام لأكثر من 30 ضابطًا، بينهم جنرالان متقاعدان، بالتخطيط للانقلاب على الحكومة، هما: حسين أوزجوبان قائد قوات الأمن شبه العسكرية في مدينة قونيا واللفتنانت كولونيل يوسف كيليلي، وألقي القبض على الضابطين الأسبوع الماضي في إطار تحقيق غير مسبوق، استدعى انعقادَ قمة طارئة بين القيادات السياسية والعسكرية في البلاد؛ حيث استقبل أردوغان في مكتبه رئيس أركان الجيش التركي الجنرال أيلكر باشبوج، ويبدو أن ما دار بينهما من حديث في مكتب أردوغان المحكم كان متعلقًا بما يجب اتخاذه من تدابير وإجراءات ضد أي شخص، سواء كان عسكريًّا أو مدنيًّا، يعمل خارج القانون أو يساعد في عمل ضد دولة القانون التي تحترم جميع الحقوق المدنية وتحكمها حكومتها المدنية بعيدًا عن أي تدخل للعسكر. 



هكذا تمخَّض بيانٌ من مكتب أردوغان عقب اللقاء الثنائي بين رئيس الوزراء التركي ورئيس أركان الجيش، والذي تضمن إعراب السلطة السياسية عن إرادتها في إيجاد "حل دستوري" للأزمة الحالية في البلاد.

 

وفي هذا الإطار يسعى أردوغان إلى تعديل الدستور من أجل المزيد من التضييق على العسكر والمزيد من الحريات المدنية، ويقول أردوغان إن هذه التعديلات المطلوبة تأتي في إطار الإصلاحات التي تقوم بها أنقرة لجعل دستورها متلائمًا مع المعايير الديمقراطية الأوروبية، لكنَّ مساعيَ العثمانيين الجدد في إرضاء أوروبا ليست كمساعي أسلافهم؛ حيث كان همُّ الباب العالي إرضاء أوروبا الفتية لكي لا تؤذي الرجل المريض، لكن همّ العثمانيين الجدد هو إرضاء أوروبا التي يوقنون أنها لن ترضى من أجل استنهاض القوة التركية والتخلص من أغلالها العسكرية؛ حيث إن الدستور الحالي تمَّ إقراره سنة 1982م بعد انقلاب 1980م، وقد وضع به الانقلابيون موادَّ تحميهم من المساءلة، بل وتعطيهم الحق في بعض الحالات في تكرار الانقلاب على الحكومة، وتمَّ إدخال تعديلات أساسية عليه ما بين 2001 و2004م، كخطوة لاستيفاء تركيا الشروط اللازمة لفتح مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.



اجتماع بين جول وإردوغان ورئيس أركان الجيش التركي حينها إلكر باشبوج

وقد جعل حزب "العدالة والتنمية" من تعديل الدستور نقطةً أساسيةً في برنامجه الانتخابي، الذي فاز على أساسه في الانتخابات التشريعية عام 2007م، وتمت صياغة تعديلات دستورة عرضت على لجنة خبراء لدراستها، إلا أن عملية التعديل فشلت بسبب الخلافات الحادَّة حول مفهوم العلمانية، كما أن حزب "العدالة والتنمية" لا يحظى بأكثرية داخل البرلمان تتيح له وحده إقرار تعديلات دستورية، ويمكنه عرض التعديلات الدستورية في استفتاء شعبي في حالة رفض المعارضة الموافقة عليها.

 

ومن أبرز التعديلات المقترحة التضييق على إجراءات حل الأحزاب، وهو ما يجنِّب الحزب خطر حلِّه والذي أفلت منه العام 2008م، كما يعطيه شعبيةً كبيرةً لدى الأكراد الذين تمَّ حلُّ حزبهم السياسي منذ فترة قصيرة، وهو ما يلقى معارضةً شرسةً، سواء من قبل الأحزاب القومية العلمانية أو من قبل العسكر الذين فشلوا بكل السبل الممكنة في الإطاحة بأردوغان وحزبه، ومثلت عملية "المطرقة الحديدية" آخر المحاولات الحقيقية القوية للجيش في الانقلاب على السلطة الشرعية للبلاد.

 

وبما قامت به حكومة أردوغان من إجراءات وحملات أمنية على مدبري محاولة الانقلاب 2003م، تمَّ تكبيل الجيش؛ حيث تمكَّنت الحكومة من القبض على رموز كبيرة داخل الجيش التركي، مثل الجنرال المتقاعد جيتين دوجان، الذي كان قائدًا للجيش الأول التركي، وهو منصب ينظر إليه دائمًا على أنه خطوةٌ نحو قيادة القوات المسلحة في تركيا.



يُذكر أن الجيش التركي مكوَّن من أربعة جيوش، والجيش الأول مسؤول عن منطقة مرمرة، بما فيها إسطنبول والحدود مع بلغاريا واليونان، ويبدو أن للجنرال يدًا كبيرةً في المحاولة الانقلابية؛ حيث أفادت الوثائق التي تنشرها جريدة "طرف" التركية والخاصة بعملية المطرقة الحديدية؛ بأن العملية كان يفترض لها أن تبدأ باختراق الطائرات الحربية التركية المجال الجوي اليوناني فوق بحر مرمرة واستفزاز اليونانيين حتى سقوط إحدى الطائرات التركية، وإذا تطلَّب الأمر يجب إسقاطها بالنيران التركية والدخول في مناوشات مع القوات البرية اليونانية وإشعال معركة أو "حرب محدودة"؛ وذلك بهدف تأجيج الشعور القومي عند الجماهير لتلتفَّ حول الجيش حامي الحمى، ويتم بناءً عليه تهميش الحكومة، ثم القيام بتفجير مسجديْن من أكبر مساجد إسطنبول، هما مسجد الفاتح ومسجد بيازيد بالمصلين في اللحظة التي يغادرون فيها المسجد بعد صلاة الجمعة؛ لإسقاط أكبر عدد من القتلى.

 

في نفس الوقت يتم نشر المحرِّضين الذين درِّبوا خصيصًا لهذه الغاية في الحارات والأسواق المعروفة بميولها الإسلامية، بالتزامن مع التفجيرات ينطلق المحرِّضون وبأياديهم الأعلام الخضراء الإسلامية ومكبرات الصوت ومن حولهم الجماهير الغاضبة لإشعال نار الفتنة بين المتدينين والعلمانيين، والتي لن يطفئها إلا الجيش الذي سيعلن حالة الطوارئ في البلاد، وبذلك يسيطر على كل الأجهزة الأمنية؛ ما يثير العديد من التساؤلات ويحدث اضطرابًا في البلاد إلى أن يحين موعد الانقلاب الذي يضبط الأمور ويعيدها إلى نصابها وتقدم حوادث إسطنبول للملأ على أنها ردةٌ إسلاميةٌ ضد العلمانية ومبادئ أتاتورك، بالإضافة إلى حركة الانفصاليين الأكراد في جنوب شرق البلاد؛ ما يستدعي استيلاء الجيش على السلطة وإنقاذ البلاد، وهو ما يمكن ربطه بتفجيرات إسطنبول 2003م؛ حيث شهدت المدينة انفجارين كبيرين ولكن في معبدين يهوديين وليس مسجدين، أسفرا عن وقوع أضرار مادية فادحة في المعبدين وتدمير 60 سيارة و200 محل تجاري ومصرع 25 مسلمًا تركيًّا منهم 6 يهود وإصابة 300 منهم؛ ما دفع البعض إلى وصف الحادث بأنه شبيه بساحات الحرب من كثرة الدماء والدمار وألسنة الدخان الكثيفة التي غطت المدينة.




وأيًّا ما كان المتهم أو الجاني الحقيقي فما حدث كالآتي:

على الصعيد الخارجي.. استغل الكيان الصهيوني الحادث بمهارة شديدة، رغم إدانة الحادث من كل المجتمع الدولي، إلا أنه ظل متمسكًا بأن هذا الحادث يأتي في إطار تصاعد الكراهية ضد اليهود في العالم وخلافه.

 


والآن، وأثناء التحقيقات، كشف محامي المتهم الجنرال المتقاعد دوجان بعضًا من أسئلة قاضي التحقيقات لموكله الجنرال؛ باعتبارها- في ظنه- أدلةً على براءة موكله؛ لأنها بعيدة عن احتمال الوقوع، لكن في الواقع يمكن ربطها بـ"المطرقة"؛ حيث قال المحامي إن القاضي سأل دوجان عن صلته بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وأشار إلى أن دوجان رفض الإجابة عن هذا السؤال.




لكنَّ القاضي تجاوز عن السؤال مواجهًا دوجان بسؤال عن علاقته بهجمات إسطنبول نوفمبر 2003م، والتي كان تنظيم القاعدة هو المتهم الأساسي فيها، متهمًا إياه بمعرفة وقوع هذه الهجمات في هذا التوقيت تحديدًا، وبالطبع نفى دوجان هذا الاتهام، مؤكدًا أن ما تمَّ الحصول عليه من وثائق يتعلق بخطط يمكن للجيش القيام بها في حالات الطوارئ وليس مخططًا انقلابيًّا، بينما قرأ عليه القاضي فقرةً من المخطط تتحدث عن حدوث فوضى في شوارع إسطنبول تشكِّل فرصةً للجيش ليعلن حالة الطوارئ، وأن هذه الفوضى ستنتج من تفجيرات متزامنة سيقوم بها تنظيم القاعدة.



مجموعة من المتورطين في المحاولة الانقلابية العام 2016 أثناء مغادرتهم السجن الذي كانوا يُحتجزون فيه قبل محاكمتهم في أنقرة مايو 2017


وبينما يقبع الآن جنرالات الجيش داخل السجون وينتظر آخرون مصيرهم خارجه؛ تحوَّلت الأدوار وتبدَّلت، وأصبح العسكر في موقف المتهم المدافع عن نفسه، ووقفت الحكومة لأول مرة منذ إعلان الجمهورية على منبر عالٍ تحرِّك الجماهير وتعدِّد الاتهامات إلى العسكر.

 

وهكذا استطاع أردوغان ليَّ المطرقة الحديدية التي تحكَّمت في البلاد، منذ انقلاب الاتحاد والترقي، وليس فقط منذ إعلان أتاتورك للجمهورية.



author-img
لكل منا طيفه الذي ما إن يبدأ أولى خطواته في الحياة ويمر بتجاربه الخاصة يتحوّل إلى أطياف متعددة نابعة من ذلك الطيف الأول، هنا أشارككم أطيافي وأحلامي وعوالمي.

تعليقات