ستظل ليلة الثامن من يناير 2023 راسخة في أذهان البرازيليين، جراء المحاولة الانقلابية لأنصار الرئيس السابق جايير بولسونارو اليمينيين، كما ستظل تجربة لولا دا سيلفا تجربة ملهمة، حتى وإن جاءت الآن مدعومة بقوى اليسار الغربي الصاعدة.
وبغض النظر عن الصراع الدولي الذي صار يُلقي بظلاله في جميع أنحاء العالم، بين موسكو وبكين وواشنطن وتوابعهم، فإن لولا دا سيلفا تحوّل إلى أيقونة منذ ولايته الأولى، وظلت قصة كفاحه مضرب الأمثال طوال ما مضى من سنوات، منذ أن كتبتُ عن تجربته بعد أن خطا أولى خطواته على أرضنا العربية في 23 مارس من العام 2010، إذ كتبت عن
البرازيل.. اللاعب الجديد في المنطقة
#عبدالعظيم_الأنصاري
#العام2010
البرازيل.. اللاعب الجديد في المنطقة
لم تكن زيارة الرئيس البرازيلي إلى الأراضي المحتلة داخل الخط الأخضر وخارجه جزءًا من مساندة البرازيل للكيان الصهيوني أو مناصرة القضية الفلسطينية، كذلك لم تكن دفاعًا عن إيران من أي تهور صهيوني.. بل جاءت هذه الزيارة في المقام الأول للحفاظ على مصالح البرازيل، كما يراها الرئيس لويس إيناسيو لولا داسيلفا.
في هذا الإطار البراجماتي، تسير السياسة الخارجية البرازيلية وهي في ذلك تتشابه مع السياسة الخارجية التركية فيما يتعلق بفكرة تصفير القضايا؛ حيث تتجنب البرازيل الخوض في نقاط الخلاف، وتسعى إلى حلول وسط تقرِّبها من جميع الأطراف، وتمد جسور المصالح الاقتصادية والسياسية معهم؛ تهيئةً لأن تكون لاعبًا له دوره وتأثيره على أهم القضايا السياسية على سطح الأرض في منطقة الشرق الأوسط، فليس ثمة ابتعاد بين التوسع الاستيطاني الصهيوني في القدس والضفة الغربية وبين حصار غزة، وبين هاتين القضيتين ومسألتي الجولان والجنوب اللبناني.
كما أن كل هذه القضايا لها علاقة وثيقة بإيران، والتي ستكون المحطة الرابعة والأهم في زيارة الرئيس البرازيلي للمنطقة؛ حيث تهبط طائرته في طهران مايو القادم لمناقشة العلاقات الثنائية وتطورات وحلول أزمة الملف النووي الإيراني الذي لا يبتعد عن دور أنقرة في كل مجريات الشرق الأوسط، وعلى رأسها القضية الكردية في شمال العراق المحتل، وما يمكن أن يتم الاستفادة منه اقتصاديًّا باستغلال الموارد الطبيعية في المنطقة، واستغلال رءوس أموالها وأجواء الاستثمار فيها؛ انطلاقًا من الأردن المحطة الثالثة في زيارة لولا داسيلفا، بعد زيارته الكيان الصهيوني وأراضي السلطة الفلسطينية، مرورًا بطرابلس الغرب التي وجه لزعيمها القذافي دعوة لزيارة البرازيل، وليس انتهاءً بإيران والكيان الصهيوني اللذين يتمتعان بعلاقات اقتصادية غير محدودة مع برازيليا.
تُقدر صادرات البرازيل بحوالي 200 مليار دولار وناتجها المحلي الإجمالي يقارب 2 تريليون دولار، وقد انضمت إلى مصافِّ الدول الصناعية، كما أنها تمتلك برنامجًا نوويًّا سلميًّا، يقول المحلل السياسي والدر دي جويز: إن الناس لا يأتون برازيليا العاصمة الجديدة للبلاد بسبب أي جمال طبيعي خاص، بل بسبب قيمتها كعاصمة لخامس أكبر بلد في العالم وكقوة إقليمية ناشئة؛ لقد كان المقصود أن تكون عاصمة البرازيل، إلا أنها تجاوزت كل توقعاتنا، وأصبحت عاصمة أمريكا الجنوبية.
ليس انطلاقًا من هنا فقط تأتي أهمية البرازيل، بل كذلك من طموحها الذي تعدَّى أمريكا الجنوبية إلى المجتمع الدولي، وخطواتها الواثقة في سبيل تحقيق أهدافها المرجوة التي تبدأ بتحقيق التنمية الاقتصادية والرفاهية للشعب البرازيلي، مرورًا بأن يصبح اقتصادها من بين أكبر خمس اقتصاديات في العالم بحلول العام 2020م، وانتهاءً بأن تتحول العضو غير الدائم بمجلس الأمن الدولي إلى واحدة من القوى الكبرى في عالم ما بعد الأحادية القطبية عالم متعدد الأقطاب.
صفقات مع الصهاينة
متجاوزًا كل الخلافات السياسية بينه وبين الكيان الصهيوني حول التوسع الاستيطاني في القدس، وتعطيل عملية السلام، وبشأن الملف النووي الإيراني؛ وصل الرئيس البرازيلي لولا داسيلفا إلى القدس ومعه 80 رجل أعمال لعقد أكبر عدد من الصفقات والاتفاقيات الاقتصادية مع الكيان الذي يتحكم في الكثير من أسواق المال حول العالم، والذي تربطه علاقات اقتصادية حميمة بكل القوى الكبرى على سطح الأرض، هذا تحديدًا ما كان يهم الرئيس البرازيلي الذي ندَّد ببناء المستوطنات، وأعرب عن أحلامه بتحقيق السلام في الشرق الأوسط، وحث الفلسطينيين والصهاينة على تجاوز العداوات، والبدء في الحوار من أجل السلام.
وفي إشارة إلى طموحات البرازيل السياسية على الصعيد الدولي، قال لولا داسيلفا في حواره مع صحيفة (هاآرتس): "إن الوقت قد حان لجلب لاعبين جدد، قادرين على طرح أفكار جديدة فيما يتعلق بالسلام في الشرق الأوسط".
وأضاف "إن هؤلاء اللاعبين يجب أن يكونوا قادرين على الوصول إلى جميع أطراف النزاع في "إسرائيل" وفلسطين وإيران وسوريا والأردن، وفي العديد من البلدان الأخرى التي ترتبط مع هذا الصراع، وبهذه الطريقة فقط سنكون قادرين على دفع عملية السلام إلى الأمام"، وهكذا عبَّر الرئيس البرازيلي عن طموحات بلاده التي ينطبق عليها كل المواصفات التي ذكر أنها يجب أن تتوافر لدى ما أسماهم بالأطراف الجدد، فالبرازيل مثل تركيا على صلات وثيقة بكل هؤلاء "إيران، سوريا، لبنان، فلسطين، الكيان الصهيوني، الولايات المتحدة"؛ لكن الفروق عديدة بين الدولتين الصاعدتين سياسيًّا واقتصاديًّا؛ حيث إن البرازيل تأتي من خارج الحدود الجغرافية للمنطقة كلاعب دولي، يسعى لتحقيق السلام من وراء البحار، بالتأكيد لن يلعب هذا اللاعب على الطريقة الأمريكية في الشرق الأوسط، ولكن المساحة الجغرافية الفاصلة بينه وبين المنطقة ستظل ثابتة، وإن تكثفت رحلات الطيران، وإن قويت العلاقات الاقتصادية؛ فليس ثمة خطر على الأمن القومي للبرازيل، مثلاً من اشتعال حرب جديدة في المنطقة بقدر ما تواجه تركيا هذا التحدي.
وحول الخلاف البرازيلي الصهيوني حول إيران، تمسك داسيلفا برأيه في أنه مهما كان الأمر لا يمكن أن نسمح بأن يحدث في إيران ما حدث في العراق، وقبل فرض أي نوع من العقوبات يجب علينا بذل كل جهد ممكن لإعادة بناء السلام في الشرق الأوسط.
وأكد أن هذا هو سبب زيارته المنطقة؛ انطلاقًا من الأراضي المحتلة، انطلاقًا من القدس وإلى إيران؛ حيث أكد أن الصراع في الشرق الأوسط ليس ثنائيًّا يتعلق فقط بالكيان الصهيوني وفلسطين، وأشار إلى وجود مصالح أخرى في الشرق الأوسط، وهذه المصالح يجب أن يكون لها تمثيل حتى نتمكن من إيجاد حل لها، وأضاف أن إيران جزء من هذا، وبالتالي على أحد ما أن يتحدث إليهم.
ورغم أن الرئيس البرازيلي أدان إنكار أحمدي نجاد للمحرقة النازية الهولوكوست، وزيارته نصب ياد فاشيم التذكاري المخصص لتكريم ذكرى الهولوكوست، إلا أنه على ما يبدو يرى وجهًا للشبه بين النازيين والصهاينة؛ لكنه يريد الاحتفاظ بود الجميع فمصلحة البرازيل هي العليا.. لكنه لم يسلم من مجنون الخارجية الصهيونية أفيجدور ليبرمان، فلم يكن يعلم داسيلفا أن رفضه زيارة قبر مؤسس الحركة الصهيونية بنيامين هرتزل سيغضب ليبرمان للحد الذي يجعله يرفض لقاءه، ولا يحضر الجلسة العامة للكنيست، والتي ألقى خلالها الرئيس البرازيلي خطابه رغم تواجده داخل مبنى الكنيست؛ لكن في النهاية يبقى ليبرمان مجرد صوت يصرخ بما في قلب كل صهيوني.. ويبقى مجرد صوت لا ينفع كيان الاحتلال بقدر ما يضره، ويكمل الرئيس البرازيلي طريقه من القدس إلى رام الله ومنها إلى عمان ثم إلى طهران مايو المقبل.
في بيت لحم
توجه بوفده المرافق له في الكيان الصهيوني إلى بيت لحم ليستقبله محمود عباس أبو مازن، قبل أن يفتتح منتدى اقتصاديًّا يضم 120 رجل أعمال برازيليًّا وفلسطينيًّا، وعند افتتاح المنتدى أعرب الرئيس البرازيلي عن أمله في أن ترى دولة فلسطينية مستقلة النور يومًا، وتنضم مثل الكيان الصهيوني إلى السوق المشتركة في أمريكا اللاتينية "مركوسور".
ودعا وزير الاقتصاد الفلسطيني في حكومة الضفة الغربية حسن أبو لبدة البرازيل إلى الاستثمار في فلسطين، والمشاركة في المؤتمر الثاني، المنوي عقده في بيت لحم يونيو المقبل، والهادف إلى تسليط الضوء على المنشآت الصغيرة والمتوسطة التي تشكل 90% من المنشآت العاملة في فلسطين، فيما أكد مدير دائرة ترويج التجارة والاستثمار في وزارة الخارجية البرازيلية وأحد أعضاء الوفد المرافق للرئيس البرازيلي نورتين بابتستا أهمية مؤتمر الاستثمار للمغتربين الفلسطينيين المقرر عقده في البرازيل، كونه يجمِّع رجال الأعمال الفلسطينيين من مختلف أنحاء العالم.
ورافق زيارة داسيلفا أراضي الضفة الغربية موافقة مجلس الشيوخ البرازيلي على منح فلسطين قطعة أرض بمساحة 20 ألف متر لبناء السفارة الفلسطينية في حي السفارات.
لم ينتج عن الزيارة أي نتائج إيجابية على صعيد عملية السلام في ظل الاعتداءات "الإسرائيلية" على القدس والمسجد الأقصى؛ لكن داسيلفا حفر لنفسه موطئ قدم بين النهر والبحر داخل النقطة التي يلتقي عندها العالم في تصارع وتصالح.
البرازيل والعالم العربي
ثمة العديد من أوجه الشبه والتقارب بين العالمين عالم أمريكا اللاتينية والعالم العربي من حيث التاريخ النضالي ضد الاستعمار والنظم السياسية الاشتراكية والثورية والنظم ذات الطابع الخطابي "جمال عبد الناصر وهوجو تشافيز"، عندما تسير في شوارع إحدى المدن في أمريكا اللاتينية، سواء في فنزويلا أو كوبا أو حتى البرازيل؛ تلاحظ الكثير من الملصقات التي تدعم القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني، وحتى بعض الشعارات التي تستخدم هنا في العالم العربي ضد الكيان الصهيوني وممارسات الاستعمار الأمريكي في العراق تستخدم هناك على الشاطئ المقابل من المحيط.
تعكس التركيبة الديموجرافية وجهًا آخر من التشابه؛ حيث يكون العرب والمسلمون جالية كبيرة في أمريكا اللاتينية بوجه عام وفي البرازيل بوجه خاص، باعتبارها الدولة الأكبر مساحةً وسكانًا في القارة؛ حيث تدفقوا على الأرض الجديدة منذ العام 1850م.
ويصل تعداد العرب أو من ينحدرون من أصول عربية في البرازيل إلى 10 ملايين من بين حوالي 191 مليون نسمة هم تعداد سكان البرازيل، أكد الرئيس البرازيلي أن هؤلاء جزءًا من الشعب البرازيلي، يكافح من أجل سعادة البرازيليين، ساعدوا في بناء ثروة البلاد وتقوية صناعتها وإثراء ثقافتها؛ كل ذلك وأكثر يجعل من أمريكا اللاتينية بوجه عام والبرازيل بوجه خاص عمقًا وبعدًا إستراتيجيًّا عربيًّا، يمكن الاعتماد عليه في مناصرة القضايا العربية؛ لكن الواقع يؤكد أن من يسعى إلى الآخر هو الطرف اللاتيني وليس الطرف العربي، رغم احتياج العرب إلى الأمريكيين اللاتينيين، وهذا ما نلمسه من سياسة البرازيل التي وقعت العديد من الاتفاقيات الاقتصادية مع الأردن أثناء زيارة الرئيس البرازيلي عمان بعد انتهائه من زيارة الأراضي المحتلة، وينعكس ذلك على الخلل في الميزان التجاري لصالح دول أمريكا اللاتينية أمام العرب، فمثلاًَ لم تتعد صادرات الأردن إلى البرازيل العام الماضي 6 ملايين دينار مقابل 183 مليون دينار قيمة مستورداتها من البرازيل.
وقبيل زيارته إلى المنطقة، دعا لويس لولا داسيلفا الرئيس الليبي معمر القذافي لزيارة بلاده قبل انتهاء فترة ولايته الرئاسية في ديسمبر المقبل، وذلك أثناء لقائه سيف الإسلام القذافي الذي يقيم هذه الأيام في مدينة ساوباولو أحد أكبر المدن البرازيلية معرضه الفني "الصحراء ليست صامتة"، وقال الرئيس البرازيلي لنجل القذافي: "إن العلاقات بين ليبيا والبرازيل وطيدة وأنا أدفع من أجل تطويرها".
وعلى رغم التحرك والنشاط الذي يشهده الشاطئ الغربي الجنوبي من المحيط الأطلسي، نجد على الشاطئ المقابل من شمال غرب القارة الإفريقية؛ حيث دول المغرب العربي وحتى الخليج، ركودًا غير طبيعي، بل وأحيانًا مواقف مضادة كما هو الحال بين المغرب وفنزويلا؛ حيث ناصرت الأخيرة المقاومة الفلسطينية في حرب غزة، وطردت السفير "الإسرائيلي"، وفي نفس التوقيت أغلقت المغرب سفارة فنزويلا في الرباط، احتجاجًا منها على اعترافها بجبهة البوليساريو!!، وبسبب عدم الاعتناء العربي في مقابل اهتمام الكيان الصهيوني بالقارة الأمريكية الجنوبية، تمكَّن الكيان من إقناع دولتين من نقل سفارتيهما إلى القدس بالمخالفة للقرارات الدولية وهما كوستاريكا والسلفادور.
وبالمقارنة بالعديد من مناطق العالم، نجد أن القارة الأمريكية اللاتينية أكثر القارات مناصرة لقضية العرب الأولى فلسطين؛ حيث تتوافق الكثير من مواقف دول القارة مع مواقف دول عربية، بل إن مواقف بعض هذه الدول تتسم بالحسم أكثر من مواقف أي دولة عربية على الإطلاق، مثل: الأرجنتين وتشيلي وكوبا والبيرو والإكوادور ونيكاراجوا وفنزويلا والبرازيل، هذه الدول تتحرك وتنشط في مناصرة القضايا العربية أكثر من العرب أنفسهم، وتسعى إلى مد الجسور بينها وبين العالم العربي، ويقابل العرب النشاط بالخمول والمناصرة بالخزي.. فإلى متى نظل صامتين على حقوقنا تاركين مصائرنا بين أيدي آخرين أعداءً كانوا أو أصدقاءً؟ إلى متى سنظل نلعب دور المفعول به في جملة العلاقات الدولية؟
تعليقات
إرسال تعليق