اختتمت القمة الإفريقية الخامسة عشرة أعمالها الثلاثاء في العاصمة الأوغندية كمبالا تحت عنوان "صحة الأم والرضيع والطفل والتنمية في إفريقيا"، لكنها ركَّزت في المقام الأول على ملفي الصومال والسودان، فهل عبَّرت القمة الإفريقية عن مشكلات إفريقيا الحقيقية وشكَّلت خطوةً لحل هذه المشكلات أم أنها كانت تحصيل حاصل وفصلاً جديدًا من فصول مسرحية المجتمع الدولي لإحكام قبضة الإمبريالية العالمية على القارة السمراء؟
الملف الصومالي
الواقع أن القمة الإفريقية لم تكن إلا تحصيل حاصل؛ فالتفجيرات التي أُعدت قبل القمة بأسبوعين في نفس المدينة التي كان من المقرر عقد القمة بها، وهي العاصمة الأوغندية كمبالا، وراح ضحيتها 76 قتيلاً كانت كفيلةً بالتفاف زعماء القارة حول الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني الذي دعا في كلمته خلال افتتاح القمة الزعماء الأفارقة إلى طرد من وصفهم بالإرهابيين من إفريقيا، لافتًا إلى تفجيري كمبالا اللذين تبنتهما حركة شباب المجاهدين الصومالية، وأكد إمكانية هزيمة هؤلاء "الإرهابيين" على حد وصفه قائلاً: "لنتحد معًا ونجتثهم من إفريقيا ونُعيدهم إلى آسيا والشرق الأوسط حيث ينتمون"، ورغم ما تحمله كلمات موسيفيني من إهانةٍ إلى العرب والمسلمين الذي قال إن بلادهم هي التي تجلب الإرهابيين إلى إفريقيا، إلا أن أحدًا من المشاركين لم يرد على هذه الكلمات.
واختتمت القمة بالتعبئة ضد مسلحي حركة الشباب المجاهدين في الصومال، وصادق 30 رئيس دولة من أصل 53 دولة إفريقية على إرسال ألفي جندي لتعزيز ستة آلاف آخرين مكلفين بالقضاء على حركة الشباب في مقديشو، وعزز الاتحاد الإفريقي قواعد الاشتباك لقوته المنتشرة في الصومال بهدف السماح لها بشنِّ هجماتٍ وقائية في حال الاشتباه بعدوان يجري التحضير له ضدها.
وهذا ما أكده المتحدث باسم الجيش الأوغندي اللفتنانت كولونيل فيليكس كولايجي عندما قال:
"قواتنا باتت حرةً في شنِّ هجمات وقائية"، وحقيقة الوضع في الصومال أن واشنطن التي مُنيت بهزيمة مذلة على يد قوات محمد فرح عيديد في النصف الأول من تسعينيات القرن المنصرم؛ حيث مثل المقاتلون الصوماليون بجثث جنودها في شوارع مقديشو، والتي تتعرَّض لأزمة اقتصادية في ظل خوضها لحرب على جبهتين واحدة في العراق والأخرى في أفغانستان وباكستان ترهق كاهل الميزانية الأمريكية وجدت في بعض الدول الإفريقية التي لها أطماع متعددة في الصومال، كما لها علاقات متشابكة مع كلٍّ من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يدًا لها داخل الصومال الذي تراه مهددًا لأمنها القومي في حال استقرار قوة مستقلة داخله ستعاديها وحليفها الصهيوني، وكانت إثيوبيا وأوغندا وكينيا هي الدول التي وقع عليها الاختيار لخوض الحرب بالوكالة عن واشنطن داخل الصومال والمكاسب معروفة سلفًا، وتتمحور حول مزيدٍ من المساعدات الاقتصادية ومزيد من الدور السياسي الإقليمي لهذه الدول، بالإضافة إلى استنزاف موارد الصومال سواء كانت موارد طبيعية داخل الأراضي الصومالية أو استخدام الساحل الصومالي بالنسبة لإثيوبيا الدولة الحبيسة المتشوقة للساحل الذي انتزعه منها قيام دولةإريتريا.
وطلبت الدول الإفريقية المشاركة في مساعدات من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على هيئة معدات عسكرية وطائرات حربية؛ لخوض غمار العمليات العسكرية ضد المتمردين في الصومال، ومن جهتها أعلنت المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي سوف يقدم مساعدات إنسانية تُقدَّر بقيمة 35 مليون يورو للصومال، وسيقوم عددٌ من الجهات بالطبع بتوزيع هذا المبلغ سواء داخل الصومال أو خارجه.
ملف البشير
تغيَّب البشير عن القمة الإفريقية، وألقى غيابه عن القمة مع خفض تمثيل السودان الرسمي في القمة بظلاله على العلاقات السودانية الأوغندية؛ حيث أرجعت الخرطوم السبب في ذلك إلى استياء السودان من تصرفات الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني الذي تغيَّب عن حفل تنصيب البشير عقب فوزه بولاية جديدة، فيما زار جوبا لحضور تنصيب رئيس جنوب السودان سيلفا كير ميارديت الذي يشغل أيضًا منصب نائب البشير، بالإضافة إلى تصريحاته التي قال فيها إن البشير الملاحق من المحكمة الجنائية الدولية ليس مدعوًا للقمة قبل أن يتراجع على وقع مطالب الخرطوم من الاتحاد الإفريقي نقل مقر انعقاد القمة احتجاجًا.
وتتسم العلاقات بين السودان وأوغندا بالتوتر تاريخيًّا؛ حيث دعمت أوغندا حركة الانفصال في جنوب السودان منذ بداية التمرد المسلح وحتى الآن، وترد السودان بدعم جيش الرب الأوغندي المتمرد، وتتلقى أوغندا الدعم في مواجهة الخرطوم من الكيان الصهيوني الذي له استثمارات ضخمة في أوغندا.
دعم أوغندا لانفصال جنوب السودان
أصبحت مسألة انفصال جنوب السودان إحدى الركائز الأساسية التي تعتمد عليها السياسة الخارجية الأوغندية، وهناك العديد من الإشارات التي تدل على ذلك أبرزها وجود اتصالات أوغندية واسعة مع قيادات الحركة الشعبية في جنوب السودان التي تتسق مع الموقف الأوغندي، وتدعم أوغندا بعض القادة، ومنهم سيلفا كير والمنتمون لقبيلة الدينكا، وهذا ما جعل كير يُطمئن موسيفيني بأن الانفصال آتٍ لا محالة، وتقود أوغندا حملةً إعلاميةً ودبلوماسيةً في إفريقيا لضمان تأييد الانفصال والاعتراف بدولة جنوب السودان فور إعلانها، وتعهَّد النظام الأوغندي للحركة الشعبية بالتدخل إلى جانب الحركة في حالة حدوث هجوم عسكري من قبل حكومة الخرطوم على جنوب السودان، وتتمثل دوافع أوغندا في اتباع هذه السياسة العدائية تجاه السودان في الآتي:
أولاً: علاقة أوغندا بالكيان الصهيوني:
تعود العلاقات بين أوغندا والكيان الصهيوني إلى خمسينيات القرن الماضي، وقد توطدت العلاقات بعد اتفاقية كامب ديفيد؛ حيث نجح الكيان الصهيوني في إنشاء علاقات أكثر قوةً مع الدول الإفريقية التي كانت تتخذ موقفًا عدائيًّا للكيان نصرةً لمصر الإفريقية التي تم الاعتداء عليها واحتلال أرضها في العام 1967م، ومع اتجاه مصر نحو الغرب وانفتاحها عليه توارت إفريقيا في أجندة السياسة الخارجية المصرية لصالح الغرب والكيان الصهيوني الذي انتهز الفرصة لتوطيد علاقته بإفريقيا، ومثَّلت أوغندا منذ البداية نقطةً مهمةً في السياسة الخارجية الصهيونية؛ حيث أحد أهم منابع النيل شريان الحياة بالنسبة لكلٍّ من مصر والسودان، اللذين يصنفهما الكيان الصهيوني بالأعداء رغم كل مظاهر التطبيع في القاهرة.
وفي زيارته الأخيرة إلى كمبالا اصطحب وزير خارجية الكيان الصهيوني أفيجدور ليبرمان مسئولين أمنيين واستخباريين، وكذلك 20 من رجال الأعمال وممثلي الشركات الصهيونية، ويقوم الكيان الصهيوني بإنشاء جسور من التعاون مع أوغندا في كافة المجالات بداية من نقل الخبرات الزراعية الصهيونية مرورًا بالتدريب الفني والمساهمة في تنمية الموارد البشرية الأوغندية وليس انتهاءً بدعم مشروعات الطاقة والمياه الأوغندية، كما تتوسع العلاقات الأوغندية الصهيونية؛ حيث تقوم منظمات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة بتقويض أوغندا بحزمة كبيرة من الاتفاقيات التعاونية، وأبرز هذه المنظمات منظمة "مشروع التبادل"، وهي منظمة تابعة للجنة الأمريكية اليهودية إحدى كبرى منظمات اللوبي الصهيوني في أمريكا.
ومن صور التعاون الأوغندي الصهيوني الاتفاق الذي تم توقيعه في مارس 2000م أثناء زيارة وفدٍ من وزارة زراعة الكيان الصهيوني برئاسة مدير الري في الوزارة موشى دون جولين، والذي ينص على تنفيذ مشاريع ري في 10 مقاطعات متضررة من الجفاف، وإيفاد بعثة أوغندية إلى الكيان الصهيوني لاستكمال دراسة المشاريع التي يقع معظمها في مقاطعات شمال أوغندا بالقرب من الحدود الأوغندية المشتركة مع السودان وكينيا.
ويجرى استخدام المياه المتدفقة من بحيرة فيكتوريا لإقامة هذه المشاريع، وهو ما يؤدي إلى نقص المياه الواردة إلى النيل الأبيض، كذلك أعلن الكيان الصهيوني أنه مهتم بإقامة مشاريع للري في مقاطعة كاراموجا الأوغندية قرب السودان؛ حيث يمكن ري أكثر من 247 ألف هكتار من الأراضي الأوغندية عبر استغلال اثنين ونصف مليار متر مكعب سنويًّا في حين أن المياه المستخدمة حاليًّا لا تزيد عن 207 ملايين متر مكعب فقط تروي 32 ألف هكتار من الأرض، ويمتلك عددٌ من رجال الأعمال الصهاينة أراضي شاسعة في أوغندا بحجة إقامة مشروعات زراعية عليها، ولا تخفى بالطبع مصلحة الكيان الصهيوني في استخدام هذه الأوراق وغيرها في دفع أوغندا لاتخاذ مواقف سياسية معينة سواء تجاه قضية جنوب السودان أو تجاه قضية مياه النيل.
ثانيًا: نفط الجنوب:
يرتبط النفط أينما وُجد فيما يُسمَّى بالعالم الثالث بالدماء والحرب، وفي حالتنا هذه لا ريب في أن أوغندا تجد مصلحةً نفطيةً في دعمها للحركة الشعبية لتحرير السودان، فمن المعروف أن غالبية الثروة النفطية للسودان متمركزة في الجنوب، وهذا ما يُشجِّع الكثير من الجنوبيين على الانفصال لاستخدام هذه الموارد النفطية في بناء دولة حديثة وقوية ورفع مستوى المعيشة لسكان هذه الدولة النفطية الصغيرة.
والجغرافيا هنا تتكلم عن الواقع السياسي المعقد فيما بعد الانفصال، فلا شك أن الدولة الجنوبية الجديدة ستكون على نوعٍ من العداء مع السودان، كما أن ارتباطاتها بالكيان الصهيوني والغرب ستجعلها أداةً بإحكام الحصار على الخرطوم التي تطالب المحكمة الجنائية الدولية بالقبض عليه، دولة الجنوب الجديدة ستكون دولة حبيسة جغرافيًّا غير مطلة على ساحل البحر، وهو ما سيجعلها مضطرةً لاستخدام أراضي دولة مجاورة لتصدير مواردها النفطية، وفي ظل السياسة الدولية الغربية والصهيونية لن تكون السودان هي الدولة المرشحة لهذا الدور الاقتصادي المهم.
وهنا تظهر أهمية كلٍّ من أوغندا وكينيا؛ حيث يمكن إنشاء خط أنابيب يصل بين مصادر النفط في جنوب السودان وموانئ كينيا من خلال الأراضي الأوغندية، وهو ما تتشوق له كل من أوغندا وكينيا، لكن ليس هذا فحسب، وإنما يبدو أن النظام الأوغندي يطمع فيما هو أكثر من هذا، وهو ما ظهر جليًّا في تصريحات الرئيس موسيفيني عندما قال إن "دولة الجنوب ستبقى حتى بعد ولادتها ضعيفة وبحاجةٍ إلى دعمٍ من دول الجوار، وعلى الأخص من أوغندا، وعليها أن تدفع مقابل دعمها بعملة النفط لدول الجوار".
مصر في قمة إفريقيا
في كل حركةٍ له تثور التساؤلات والتكهنات حول صحته، وهذا ما حدث عندما ألغى الرئيس المصري حسني مبارك زيارته إلى أوغندا للمشاركة في القمة الإفريقية، لكن المشكلة ليست في أداء الرئيس من حيث زياراته، ولكن المشكلة تكمن في السياسة المصرية تجاه أهم وأخطر القضايا على صعيد الأمن القومي، فإفريقيا لا تحتاج إلى مجرد الزيارات.
"كل شيء على ما يُرام".. هذه هي كل الكلمات التي يخرج علينا بها وزير الخارجية أحمد أبو الغيط، بينما يؤكد التاريخ المصري والواقع الإقليمي أننا لا نسمع هذه الكلمة بهذه الطريقة إلا قبل كل هزيمة وقبل كل نكسة.
مثَّل مصر رئيس وزرائها أحمد نظيف في قمة إفريقيا الذي أكد أنه أجرى مشاوراتٍ مع الجانب الأوغندي حول اقتراح أوغندا بعقد قمة لرؤساء دول حوض النيل، وأكد كوزيره أبو الغيط أن كل شيء على ما يُرام، وأن الحوار هو خيار إستراتيجي، وهو الأمر الذي يعني ضعف الموقف المصري والاعتراف بذلك علنًا مما يجعل الأطراف الأخرى تغالي في مطالبها ولا تبالي بأي مطالب مصرية، وهو نفس ما حدث في سياسة التعامل مع العدو الصهيوني عندما قالت مصر: إن السلام هو الخيار الإستراتيجي مما جعل العدو الصهيوني لا يقيم أي اعتبارٍ للاعتراضات المصرية على تصرفاته الإجرامية.
وبينما تدَّعي الحكومة أن كل شيء على ما يرام تثبت أساسات السدود في دول المنبع، وتُبنى المشروعات المائية على ضفاف النيل تمامًا كما تبنى المغتصبات في القدس كل يوم في عملٍ لا ينقطع، بينما الحديث في القاهرة لا ينقطع أيضًا عن السلام والحوار.
تعليقات
إرسال تعليق