عبدالعظيم الأنصاري
عندما ظهر مقاتلو كتائب عزالدين القسام، من بين الركام والحطام والدمار في غزة، بكامل قوتهم وأسلحتهم وأناقتهم، بسيارات بيك آب كبيرة، في موكب مهيب وسط أهالي المدينة الذين ظهروا هم أيضًا فجأة من بين الركام، وكأنهم في اليوم الأول من الحرب، وكأن شيئًا لم يكن، صُدم العديد من الخبراء العسكريين الإسرائيليين من هول المشهد عليهم بعد حجم الدمار الهائل الشامل الذي أحدثه جيشهم في غزة، وفي هذه المناطق الشمالية منها تحديدًا، متسائلين كيف نجت تلك السيارات الضخمة من القصف الجوي العنيف والشامل على مدينة غزة، وشمالي القطاع، فمن ناحية لا يُمكن أن تكون تلك السيارات كانت موجودة في تلك المناطق دون أن تُستهدف من الطيران الإسرائيلي، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن تكون قد جاءت من جنوب القطاع حيث مازال الوجود العسكري الإسرائيلي قائمًا في مفرق الشهداء أو كما يسميه الإسرائيليون محور نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، والذي سينتهي في غضون أيام مع استكمال تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يُلزم قوات الاحتلال بالانسحاب الكامل من محور نتساريم ومحور صلاح الدين أو كما يسميه الإسرائيليون محور فيلادلفيا.
لقد صرخ وزراء إسرائيليون وأعضاء في الكنيست، على رأسهم الوزيرين الأكثر تطرفًا بن غفير المستقيل، وبتسلئيل سموتريتش، لأن الصفقة التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية، يُفرج بمقتضاها عن مئات من الأسرى الفلسطينيين المحكوم عليهم بمؤبدات، ما يعني أن فرحتهم بقتل الشهيد يحيى السنوار، لا تعني شيئًا لأنهم بأيديهم سيفرجون عن ألف سنوار.
كان ذلك تجسيدًا حيًا لما تحدثنا عنه سابقًا من أن غزة التي تتخذ بلديتها من طائر الفينيق شعارًا لها، ظهرت من بين الدمار مجددًا كأسطورة جاءتنا من عالم غيبي بعيد.
لقد تجسدت في غزة بالفعل صراعًا أسطوريًا بين البطل الأسطوري اليهودي شمشون الجبار، وطائر الفينيق الذي يُجدد حياته من الفَناء.
كان يتمتع شمشون بقوة خارقة نهايتها كانت في أرض غزة، بحسب الرواية التوراتية الحالية، في سفر القضاة، الإصحاح 16، والتي يقول في تفسيرها القمّص تادرس يعقوب، إن "شمشون استطاع بفك حمار أن يقتل ألف رجل، وفكر في الذهاب إلى أكبر مركز للفلسطينيين حينها في غزة"، وهناك كانت نهايته، إذ كان شمشون يُعمل القتل في الفلسطينيين، ولا يخشى فيهم أحداً، إلى أن تعرّض لخدعة من دليلة، تلك المرأة الفاتنة التي أغوته حتى عرفت أن سرّ قوته يكمن في شعره، فسلّطت عليه خادماً ليحلق شعره أثناء نومه، فقبض عليه الفلسطينيون وقلعوا عينيه، وأخذوه عبداً ذليلاً إلى غزة، ليعمل في طحن الشعير، وفي أحد الأيام اجتمع الفلسطينيون في معبد للإله داجون، وأحضروا شمشون ليتهكموا عليه، وكان شعر شمشون قد بدأ بالنمو من جديد، لتعود إليه قوته الأسطورية، فتظاهر بأنه يسأل الخادم عن أعمدة المعبد الرئيسة لكي يستند إليها أثناء مشيه، وعندها قال قولته الشهيرة "عليّ وعلى أعدائي" – وفق ما تم تناقل الأسطورة على ألسنة الشعوب- وقبض على العمودين المتوسطين اللَذين كانا عماداً للمعبد قائلاً: "لتمت نفسي مع الفلسطينيين وانحنى بقوة ممسكاً بعمودَي المعبد حتى انهار على كل من فيه، فقتل نفسه وقتل جميع من كانوا في المعبد، وقيل إن القتلى الذين قتلهم في موته أكثر من الذين قتلهم في حياته.

ويُمكننا إسقاط أسطورة شمشون على واقع بنيامين نتنياهو الآن، الذي لم يكن يرى حيلة للانتصار أثناء الحرب، سوى بالدمار الذي لم يكن أبدًا طريقًا للانتصار، فالمجرم الذي تتربص به قوى اليسار الإسرائيلي المعارض، وتتبرص به قوى اليمين الإسرائيلي في ائتلافه الحاكم لكيلا يتهاون في القضاء على "الأشرار"، لم يكن يرى طوال 15 شهرًا حلًا سوى المزيد من إلقاء القنابل والصواريخ والدمار لتحقيق أي انتصار، حتى لو هُدم المعبد على رأسه فلن يكون وحده.
ما سبق يُمكن أن يُفسّر كذلك تطبيق ما يُسمى في الجيش الإسرائيلي بـ"بروتوكول هانيبال" أو "توجيه حنبعل"، والذي يعتمد على مقولة "جندي قتيل خير من جندي أسير"، والذي يسمح باستخدام الأسلحة الثقيلة في حالة أسر أي جندي إسرائيلي لمنع الآسرين من مغادرة موقع الحدث، وإن ترتب على ذلك قتل الآسر والأسير في آن معاً، وهو مبدأ شمشون نفسه عندما هدم أحد المعابد الفلسطينية في غزة، "عليّ وعلى أعدائي"، أي أنه عندما يشعر الإسرائيلي بأن عدوّه -أي الفلسطيني في هذه الحالة- سوف يُحقق انتصاراً مهماً كان محدوداً، فهو لا يقبل الاعتراف بذلك، حتى لو كان المقابل هو افتعال حالة شاملة من الدمار، تودي بحياته وحياة عدوّه معاً، في سبيل عدم السماح بإعلان عدوّه تحقيق أي نصر ولو كان صغيراً.
على الجانب الآخر، يُمكننا تخيّل طائر الفينيق الفلسطيني، ينظر إلى هياج "شمشون" وتعطشه إلى الانتقام والدمار، في كبرياء مُعجِز، يعلم الطائر الأسطوري أنه مهما أحدث "شمشون" من دمار، ومهما أثخن فيه من الجراح، فإنه يستطيع أن ينهض من جديد من بين النيران والركام، هكذا تقول الأسطورة عن طائر الفينيق أو العنقاء، الذي تحدث عنه باستفاضة الباحث جوزيف نيج، في كتابه "The Phoenix An Unnatural Biography of a Mythical Beast"، "طائر الفينيق... سيرة غير طبيعية للوحش الأسطوري"، فالطائر هذا كان يعيش ألف عام، وعندما كان يذبل ويحتضر، كان يذهب إلى نخل الفينيق العالي، في فينيقيا أو معبد الشمس في مصر، باختلاف الروايات الأسطورية، ليبدأ طقوس الاحتراق والنشوء، فيصنع لنفسه كوخاً من القش يحترق في داخله، حتى تخرج منه يرقة تبتعد عن النار، ويخرج منها طائر فينيق جديد يحمل صفات الطائر القديم نفسها.
هكذا فعل مجاهدو عزالدين القسام، عندما ظهروا من بين الدمار والركام في كامل أناقتهم، وكامل تسليحهم، بعربات الـ بيك آب الكبيرة، التي مثلت لغزًا للخبراء العسكريين حول العالم، وليس فقط صدمة للإسرائيليين؛ فتحية إجلال وتعظيم لأبطال أسطوريين تحملوا هجوم العالم غربي وعربي عسكري وإعلامي واقتصادي وسياسي عليهم طوال 15 شهرًا، ليُعلنوا في النهاية انتصارهم وخروجهم من بين الدمار أعزاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر في صحيفة الكرامة الخميس
تعليقات
إرسال تعليق