عبدالعظيم الأنصاري
جمال عبدالناصر.. بصمة مؤثرة، ورنين يدوي صداه حتى الآن في مصر والعالم العربي، وربما يمتد إلى شيء من وجدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وحتى الشرق الأقصى، حقيقة لا تقبل الشك أو الجدال.
لكن ما يقع في دائرة الشك والجدل، هو طبيعة ذلك التأثير، فالبعض يرى في الرجل بطلًا محررًا قائدًا للعالم الثالث أمام الإمبريالية الغربية والصهيونية، والرجعية الإسلامية، وذراعًا طولى للقومية العربية نفض غبار الاستعمار، ليفتح آفاق الاستقلال الوطني والقومي العربي.
نجح في إرساء دعائم العدالة الاجتماعية، وبناء أساس للصناعة الوطنية، ووضع بذرة لاقتصاد مصري واعد، ووضع رؤية استراتيجية بعيدة المدى والتأثير في محيط مصر العربي والإفريقي والعالم النامي، وفقًا لنظرية دوائر بحسب مصالح مصر.
قال عنه نزار قباني
تعاودنـــى ذكــراك كلّ عشيّــةٍ | ويورق فكـــرى حين فيــك أفكّر .. | |
وتأبى جراحـــى أن تضــمّ شفاهها | كأن جــراح الحــبّ لا تتخثّـــرُ | |
أحبّك لا تفسيــر عنــدى لصَبْوتـى | أفسّـر ماذا ؟ والهـــوى لا يفسَّــر | |
تأخرت يا أغلـى الرجـــال ، فليلنـا | طويـل ، وأضــواء القناديـل تسهرُ | |
تأخّـرت .. فالسـاعات تـأكل نفسهـا | وأيامنا فــى بعضهــــا تتعثّــرُ | |
أتسأل عن أعمــارنا ؟ أنت عمــرنا | وأنت لنا المهــدىّ .. أنت المحــرّرُ | |
وأنت أبو الثــورات ، أنت وقـودهـا | وأنت انبعـاث الأرض، أنت التغيّــرُ |
بينما يراه آخرون طاغية قضى على حلم "الديمقراطية" وحوّله إلى سراب، وأضاع البلاد والعباد، والتاريخ والمستقبل، فالرجل الذي أطاح بفاروق ونجيب وجميع الأحزاب والحركات والجماعات السياسية، استلم مصر والسودان وغزة دولة واحدة تحت نفس الراية، ورحل مهزومًا ومصر بلا السودان وبلا غزة وبلا سيناء.
تطايرت أحلام تحقيق الاستقلال الوطني، والقومية العربية، كان العالم منقسم بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وما كانت مصر عبدالناصر إلا جزءًا من هذا الانقسام.
وفي هذا قال نزار قباني
هزمنـا .. ومـا زلنـا شِتـاتَ قبائـلِ | تعيشُ على الحقــد الدفيــن وتثـأرُ | |
رفيق صــلاح الدين .. هل لك عـودةٌ | فإن جيـوش الــروم تنهـى ، وتأمرُ | |
يحاصــرنا كالمــوت ألفُ خليفــةً | ففى الشرق هولاكو .. وفى الغرب قيصرُ |
خلّف جمال عبدالناصر إرثًا ثقيلًا من الأحلام الضائعة التائهة بلا مرشد، من المشاريع الناقصة، من التناقضات الشاسعة، من الهزائم المريرة، والتفاصيل الأليمة، والانقسام المستمر، بين من يعبدوه ومن يرجموه، صنمًا عملاقًا كمثل أصنام سابقيه من الفراعنة.
في بداية حياتي كتبت بحثًا مقدمًا للكلية تحت عنوان "حركة يوليو 52 بين الثورة والانقلاب"، كُنت أبحث عن مضمون ما حدث، وما وراء ما كان يُسمى حينذاك بـ "حركة الجيش المباركة"، وكيف أطلق عليها البعض ثورة، وأطلق عليها البعض انقلاب، وهو نفس الخلاف المستمر حتى الآن.
أول جريدة عملت بها كان اتجاهها "ناصريًا"، ولم يكن يمر "عيد ميلاد الزعيم" أو "ذكرى وفاته" حتى نكتب ونُذكر الناس بقائدهم الملهم، وعندما فكّرت في إجراء حوار مع أحد كبار مؤرخي مصر وأحد أساتذتي الدكتور عاصم الدسوقي، لم يجل بخاطري أنني سأنضم بسهولة إلى جوقة العزف للزعيم.
حينها كان المدح في جمال عبدالناصر، ذمًّا متنكرًا للرئيس حينها محمد حسني مبارك، الذي بدأ يشهد سنواته الأخيرة، أو كما قال أحدهم "الأيام الأخيرة".
فإلى نص الحوار:
المؤرخ المصري الدكتور عاصم الدسوقي: جمال عبد الناصر مؤسس مصر المعاصرة عبد العظيم الأنصاري / مصر العربية السبت 2 اكتوبر 2004 الساعة 11 م |
| |
* هل أخذ عبد الناصر حَقَّه في شهادات المؤرخين؟ ** هناك كتابات أعطته حقه ولكنها خارج مصر سواء في المحيط العربي أو في بعض الدراسات الأوروبية، حتى الصحافة تحتفي به في المناسبات الخاصة كذكرى وفاته في الكويت وقطر والبحرين واليمن، هذه الصحف تكتب عنه بشكل حقيقي لدرجة أن البعض قد يعتقد أن الصحيفة تزايد وتمدح ولكنها الحقيقة ولا شيء غيرها. فلقد غيّر عبد الناصر البنية الأساسية في المجتمع المصري وفي الاقتصاد المصري بالإضافة إلى العلاقات الخارجية، ولكن- وتلك إحدى أمراض الثقافة المصرية- فبعد وفاته مباشرة فتح الباب للهجوم عليه، لتمرير مشروعات كان عبد الناصر يرفضها مثل الانفتاح والتعامل مع إسرائيل، ومن هنا أخذ الكثيرون ينهشون في جسده بالباطل. * فهل نجحت حملات التشويه والطعن في تغيير صورة عبد الناصر في وجدان الشعب العربي وخاصة الشباب؟ ** لم تنجح، لأن المتغيرات التي حدثت في مصر والعالم العربي من تدهور شديد حتى تم احتلال العراق، ومن مساندة الولايات المتحدة الأمريكية الدائمة لإسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية التي عانت منها مصر وبعض الدول العربية وما حدث في مصر من بطالة وتضخم وارتفاع للأسعار، وحتى فقدان الخدمات الأساسية كل هذا يجعل الناس يتذكرون عبد الناصر عند كل أزمة من هذه الأزمات، فمثلاً عندما اجتاحت إسرائيل جنين عام 2002 وأعملت فيها المذابح وخرجت مظاهرات الاستنكار في مصر والعالم العربي للتنديد بتلك المذابح، لاحظنا أن الناس كانت تحمل صور جمال عبد الناصر، وكذلك في مختلف الأزمات السياسية الطاحنة مثل حرب العراق حيث تمنى الناس عودته ليقف في وجه الغزاة الأمريكيين والغربيين.. |
** كنت في تلك الفترة أقيم في المعادي وكنت على مدى ثلاثة أيام أخرج إلى الشارع ولا أجد وسيلة مواصلات أركبها فقد تكدست جميعها حتى سيارات النقل القادمة من حلوان كانت تنقل الناس لحضور الجنازة، وكان الناس في الحي الذي أقيم فيه يقيمون في الشوارع بصفة دائمة في انتظار الجنازة.
** أنشأ جمال عبد الناصر عدداً كبيراً من المراكز العلمية مثل مركز بحوث الصحراء، والمركز القومي للبحوث ومركز بحوث الطاقة الذرية وغيرها فقد كانت تستولي عليه فكرة البحث العلمي، وكان يقول دائماً إنه لا معنى لأن تشتري سلعة لا تصغها فيتحكم فيك بائعها وقد ساهم إيمانه بذلك وتدعيمه للفكرة في تنمية الصناعة في مصر، ولكن الغرب الأوروبي كان يحجب أسرار العلم كعادته، وعندما كان أحد الدارسين المصريين يعود من الخارج ليواصل البحث العلمي في مصر، كان يتعرض لضغوط شديدة لاستقطابه من قبل تلك الدول بكل الوسائل.
تعليقات
إرسال تعليق