في أجواء يسودها القلق من اندلاع شرارة حرب عالمية ثالثة، خاصة مع احتدام أزمة تايوان، عززت الولايات المتحدة الأمريكية من وجودها في منطقة المحيطين الهادئ والهندي.
ألهبت زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النوّاب الأمريكي، إلى جزيرة تايوان الأزمة بين واشنطن وبكين، لكنها كانت بمثابة رسالة إلى حلقاء العم سام في شرق آسيا أن يصمدوا في وجه التنين الصيني ولا يُخيفهم ما ينفث من نيران.
التحالف الأمريكي - الفلبيني
من بين حلفاء أمريكا في المنطقة تبرز الفلبين، الدولة الأقرب إلى تايوان، والتي ترتبط مع الولايات المتحدة بتحالف عسكري وثيق يعطي الأخيرة الحق في التدخل العسكري المباشر في حال وجود خطر على مانيلا.
العاصمة التي أسسها المسلمون باسم "أمان الله" في القرون الوسطى، وغيّرها المستعمرون الإسبان إلى مانيلا أصبحت من منتصف القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين من أبرز حلفاء واشنطن عاصمة النظام العالمي.
مثلت كل من الإمبراطورية اليابانية والمتمردين الشيوعيين وجبهة مورو الإسلامية، وجماعة أبوسياف، وغيرها محطات على طريق التحالف الأمريكي - الفلبيني، وتطوّرت العلاقة الدفاعية بشكل فعّال على مدى 70 عامًا لمواجهة بيئة التهديد الإقليمية والعالمية المتغيرة.
لكن على مدى السنوات العشرين الماضية، تعثّر هذا التكيّف بين الحليفين، ليس بسبب اختلاف التوجهات والرؤى أو اصطدام المصالح - بستثناء انتخاب رودريجو دوتيرتي وتقاربه مع الصين - ولكن بسبب التقدّم التكنولوجي، وتحديدًا تقدّم عمليات اختراق الأمن السيبراني التي صارت تُمثل تهديدًا حقيقيًا لواقع النظام العالمي.
توجه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الفلبين منذ أيام، وقال بلغة حازمة حاسمة، إن الولايات المتحدة ستُدافع عن الفلبين إذا تعرضت لأي هجوم في بحر الصين الجنوبي، وإن واشنطن ملتزمة تمامًا بمعاهدة الدفاع المشترك بين البلدين.
الوزير الأمريكي أوصل رسالته المفيدة والقوية، لكنه أغفل جانبًا مهمًا للغاية، وخطيرًا خطورة الهجمات العسكرية، يتمثل في الأمن السيبراني، وهذا هو ما حذًر منه كل من جريجوري إتش وينجز وميغيل ألبرتو جويز في تقرير لهما بمجلة ذا ديبلومات الأمريكية، تحدث التقرير عن ازدياد دور عمليات الاختراق الإلكتروني في الصراعات الدولية، وأنه بينما قطع حلف شمال الأطلسي "ناتو" والتحالف الأمريكي - الياباني طريقًا طويلًا في تعزيز الدفاع الجماعي في الفضاء الإلكتروني، فقد تأخر التعاون السيبراني على مستوى التحالف الأمريكي - الفلبيني، بطريقة أدت إلى ظهور نقاط ضعف جديدة يُمكن أن تقوّض التحالف وتعرقل عملياته.
تُلزم المادة الرابعة من معاهدة الدفاع المتبادل بين الولايات المتحدة والفلبين، الطرفين بمساعدة بعضهما البعض في حالة وقوع هجوم مسلح على أحدهما، وعندما تم التوقيع على المعاهدة في خضم الحرب الكورية وبعد أقل من عقد من الحرب العالمية الثانية، كان تعريف "الهجوم المسلح" واضحًا لا لبس فيه ، أما في العقود الأخيرة فيقول التقرير إن الشؤون الدولية شهدت انتشارًا لعمليات المنطقة الرمادية مثل القيام بعمليات خاطفة عن طريق مرتزقة أو شركات أمنية، أو ميليشيات بحرية، تسمح للدول بإعادة تشكيل الظروف الأمنية وتعزيز مصالحها عبر أعمال أقل من عتبة الهجوم المسلح، وهو ما يتجلى بوضوح مع استخدام الوسائل الإلكترونية في السعي إلى تحقيق المصالح الاستراتيجية.
استخدمت الحكومات العمليات السيبرانية لتخريب البنية التحتية الحيوية، وتقويض القدرات العسكرية، وإلحاق الضرر بالاقتصادات، وزرع المعارضة الموالية للخارج، وكل ذلك مع تجنب المفاهيم التقليدية لمصطلح "الهجوم المسلح".
أكد تقرير ذا ديبلومات أن التعرف على المخاطر التي تشكلها العمليات السيبرانية أدى إلى إدراج الأمن السيبراني كمسألة أمن قومي وانتشار القدرات العسكرية السيبرانية.
كما لفت التقرير إلى أن نمو الصراع السيبراني يُشكل تحديًا حادًا للتحالفات الدولية، فبينما تُلزم معاهدات الدفاع الحالية الأطراف بالرد على هجوم مسلح، فإن هذا لا يعني شيئًا أمام الهجمات السيبرانية التي قد تكون هوية المهاجم فيها غير مؤكدة ويتم إلحاق أضرار جسيمة دون التسبب في خسائر بشرية، لتقف هنا نصوص المعاهدات الدولية القديمة عاجزة أمام الاختراقات السيبرانية.
إستونيا وظهور معضلة النقطة العمياء
أصبحت هذه المعضلة واضحة العام 2007، عندما تعرّضت إستونيا لهجوم إلكتروني أدى إلى شلل البلاد، وأشارت أصابع الاتهام حينها إلى روسيا، ونادت إستونيا بتفعيل المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي "ناتو" للدفاع والاستجابة الجماعية ضد روسيا، دون جدوى، فلم يستجب الحلف لنداء إستونيا واكتفى بإرسال المساعدات إلى الدولة الصغيرة على بحر البلطيق خشية غضب الدب الروسي والدخول في حرب كبرى ربما تودي بالبشرية، واستندت دول أكبر حلف عسكري في التاريخ إلى أن المادة الخامسة يكتنفها الغموض بشأن اعتبار "الهجمات السيبرانية" التي لا تُخلّف خسائر في الأرواح، هجمات مسلحة أم لا ؟
القصور في التحالف الأمريكي - الفلبيني
أشار تقرير ذا ديبلومات إلى أن أوجه القصور في الاستجابة والنمو المستمر للصراع السيبراني تتطلب إعادة فحص كبيرة لكيفية استجابة التحالفات للعمليات السيبرانية الهجومية.
بينما أكد أن تحالفات الـ"ناتو" مع اليابان وكوريا الجنوبية، اتخذت خطوات مهمة لتوسيع قدرات التحالف والتزاماته في الفضاء الإلكتروني، بما في ذلك المؤشرات على أن هجومًا إلكترونيًا يُمكن أن يُعتبر "هجومًا مسلحًا" ولكن ذلك لم يحدث في التحالف الأمريكي مع مانيلا الجارة الأقرب لجزيرة تايوان.
واشنطن ومانيلا.. من الخطوة الأولى إلى النقطة العمياء
لم يكن التعاون السيبراني غائبًا تمامًا عن الفلبين والولايات المتحدة، بعد سلسلة من الهجمات الإلكترونية الانتقامية من قبل قراصنة إلكترونيين صينيين وفلبينيين خارجين على القانون، أثناء مواجهة سكاربورو شول 2012، والتي وقعت بين الصين والفلبين، بسبب محاولة البحرية الفلبينية احتجاز ثماني سفن صيد صينية من البر الرئيسي لجزر سكاربورول شول المتنازع عليها بين البلدين في بحر الصين الجنوبي.
تعهدت الولايات المتحدة والفلبين بالعمل معًا في مجال الأمن السيبراني، منذ الأيام الأولى للإنترنت، ووفر ذلك نقاط التعاون الثنائي الموجودة مسبقًا لآليات التعاون السيبراني بين البلدين.
برز ذلك جليًا العام 2016 عندما تعرضت الفلبين لسلسلة من الهجمات الإلكترونية الخطيرة، وقدّمت الوكالات الأمريكية مثل وزارة العدل المساعدة، التي استمرت حتى العام 2017، ثم توقف التعاون السيبراني في السنوات اللاحقة.
كان ذلك بسبب انتخاب كل من رودريجو دوتيرتي ودونالد ترامب العام 2016، والذي شكل تحديًا للتحالف، خاصة في المجال الرقمي، إذ تقارب دوتيرتي مع الصين، وأقام علاقات قوية في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبنية التحتية الحيوية ما أدى إلى زيادة مخاوف الولايات المتحدة بشأن أنشطة التجسس الصينية في الفلبين وجعل مانيلا في صراع مباشر مع إدارة ترامب وحملتها العالمية ضد شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الصينية مثل هواوي.
إلى جانب هذا الخلاف بين النخبة، أصبح الاختلاف الأساسي واضحًا أيضًا داخل التحالف في كيفية سعي كل حكومة للأمن السيبراني الوطني، بينما جعلت الحكومتين الأمن السيبراني أولوية وطنية بعد العام 2016، وركزت واشنطن على الحكومات الأجنبية باعتبارها التهديد الأساسي، فيما رأت سياسات الأمن القومي الفلبينية التهديد الأجنبي لكنها ركزت على الجهات الفاعلة غير الحكومية.
لم يؤد هذا التصور المتباين للتهديد إلى اختلاف الاستراتيجيات السيبرانية فحسب، بل أدى أيضًا إلى تفضيلات مؤسسية مختلفة قد تكون هشمت عن غير قصد نقاط التعاون الموجودة مسبقًا.
أكد تقرير ذا ديبلومات أن الأمن السيبراني مازال موضوعًا للنقاش في إطار الحوار الثنائي، لكن البيانات المشتركة والبرامج قصيرة المدى فشلت في تعزيز قدرة التحالف على مواجهة التهديدات الإلكترونية.
ركود التعاون السيبراني.. نقطة ضعف أمريكية
يشكل ركود التعاون الثنائي في مجال الأمن السيبراني نقطة ضعف داخل التحالف، تُصنف الفلبين من بين أكثر البلدان انعدامًا للأمن السيبراني على مستوى العالم، حيث تم تحديد بنيتها التحتية الحيوية على أنها معرضة بشكل خاص لهجمات إلكترونية أجنبية، ضمن عمليات التحالف تكون نقاط عف الشريك هي نقاط الضعف الخاصة بك، وقد تؤدي الهجمات الإلكترونية الناجحة على الفلبين إلى إعاقة قدرة الولايات المتحدة على استخدام المواقع في الفلبين للاستجابة للأزمات الإقليمية.
كان هذا القلق مهمًا للغاية لدرجة أنه شجّع واشنطن على التفكير في إنشاء منشآت طاقة قائمة بذاتها لدعم المواقع الحساسة في الأرخبيل.
كما أن البنية التحتية الحيوية ليست هي نقطة الضعف الوحيدة، يُشير الاستخدام البارز لحملات التضليل أثناء الانتخابات الوطنية الفلبينية لهذا العام إلى قابلية سكان الفلبين لمثل هذه العمليات، وهو أمر مهم لأن الصين على وجه الخصوص حاولت فيما مضى استخدام حملات التضليل لاستهداف التحالف الأمريكي - الفلبيني.
أشار التقرير كذلك إلى تصريح إيلي راتنر، مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الأمن الهندي والمحيط الهادئ، على هامش إحدى المؤتمرات قال فيه "إن واشنطن تعمل مع مانيلا على تطوير مبادئ توجيهية دفاعية ثنائية جديدة من شأنها أن توضح أدوارنا ومهامنا وقدراتنا في إطار تحالفنا".
توصيات لتعزيز التحالف الأمريكي - الفلبيني
أوصى تقرير ذا ديبلومات بأن تعترف المبادئ التوجيهية الدفاعية الثنائية الأمريكية - الفلبينية التي تحدث عنها "راتنر" رسميًا بأن العمليات الإلكترونية تُعد نوعًا من "الهجوم المسلح" الذي يؤدي إلى تفعيل معاهدة الدفاع المشترك، مؤكدًا أن مثل هذا الإعلان من شأنه أن يُمدد التحالف الأمريكي - الفلبيني في الفضاء الإلكتروني وجعل الشراكة تتماشى مع التحالفات الأمريكية الأخرى، ويسد فجوة داخل التحالف يُمكن استغلالها من قبل الخصوم.
ومع ذلك أشار التقرير إلى أن توسيع نطاق التزامات التحالف للأمن السيبراني لن يكون ذا جدوى إذا لم يقترن بالقدرات والاستثمارات والتطوير المؤسسي، وأوصى بضرورة إعداد جدول زمني لأنشطة الدبوماسية الدفاعية المنتظمة، ودمج الأمن السيبراني في هذه الأنشطة.
أوصى التقرير كذلك تعزيز التعاون الأمريكي - الفلبيني في مجال الأمن السيبراني، مؤكدًا أن برنامج الشراكة يُقدم وسائل راسخة لتوسيع المشاركة السيبرانية الثنائية، مع قيام الفلبين والولايات المتحدة بتطوير مؤسسات ووكالات جديدة لتعزيز الأمن السيبراني، وأنه يجب تضمين هذه الكيانات الجديدة في تعهدات تعاونية، مع ضرورة تنمية الروابط بين القوات الإلكترونية الأمريكية والفلبينية التي تعزز الفعالية التشغيلية داخل التحالف.
كما لفت التقرير إلى ضرورة إدراك أن الأمن السيبراني يُعد مشكلة تشمل كل الدول، ولا يُمكن حلها بشكل مستقل عن قضايا التنمية الاقتصادية والتجارة والتعليم، مشيرًا إلى أن رغبة الفلبين في التنمية الاقتصادية والحاجة إلى مواكبة العالم الرقمي أدت إلى احتضانها لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الصينية، لذلك أوصى التقرير الإدارة الأمريكية بأنه مثلما لا ينبغي تجاهل الأمن السيبراني من أجل المنفعة الاقتصادية، فإنه لا ينبغي أن يُتوقع من الشركاء التضحية بالرفاه الاقتصادي دون مساعدة، ما يتطلب المزيد من الاستثمار والدعم السياسي المستدام.
في حين أكد التقرير أنه من غير المرجح أن يحل بلينكين هذه المشكلة في زيارة قصيرة واحدة، لكنه أكد أن الوقت قد حان كي يدرك التحالف أن الأمن السيبراني يُمثل مسؤولية لا يُمكن لأي حكومة أن تستمر في التغاضي عنها.
______________________________________________________
نُشر المقال في صحيفة الكرامة المصرية بتاريخ الأحد 14 يوليو 2022
المصدر: مجلة ذا ديبلومات الأمريكية
https://thediplomat.com/2022/08/the-philippine-us-alliance-has-a-major-blind-spot-cybersecurity/
تعليقات
إرسال تعليق