بعيدًا عن أحلام الغزو الصهيونية، وأحلام التحرير العربية الإسلامية، تتحدث أرض المعركة عن متغيرات غاية في التعقيد يصعب معها الإجابة المباشرة على سؤال من يُحقق الانتصار على أرض الواقع بالفعل المقاومة الفلسطينية أم الكيان الصهيوني؟
طالما كانت الحرب مستمرة دون إعلان أحد الأطراف الانتصار المُطلق على الطرف الآخر، فإن الحرب لم تشهد مُنتصرًا بعد، والدليل البازغ على ذلك أنها مستمرة.
يُحب البعض اللجوء إلى الأرقام التي لا تُعبر بالضرورة عن حقيقة الأمر، يغبن هؤلاء حق المقاومة الفلسطينية كثيرًا عندما يعقدون مقارنة بين القوة التدميرية لأسلحة الكيان، مقابل القوة التدميرية لأسلحة المقاومة، ولسنا هنا بصدد استعراض المساندة العالمية التي يتلقاها الكيان، مقابل خذلان القريب قبل الغريب الذي تُعانيه المقاومة، والأمر غير قابل للنقاش.
إن مُجرّد صمود المقاومة طوال عام ونيف، واستمرارها في إلحاق الخسائر بين صفوف العدو الإسرائيلي، الذي هزم الجيوش العربية مجتمعة غير مرة، يُعد مُعجزة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
علميًا ناقشت كل من الحقوقية والأكاديمية نورا عريقات، والكاتب الصحافي جوش بول، والحقوقي تشارلز بلاها، والقانوني لويجي دانييل، الأمر في مقال مشترك لهم في مجلة فورين أفيرز الأمريكية، تحت عنوان "هل يُمكن كسب الحرب في غزة؟ مناقشة هدف إسرائيل وتقدمها"، رد فيه المحررون على مقال سابق للكاتب جون سبنسر، رئيس قسم دراسات الحرب الحضرية في معهد الحرب الحديثة في ويست بوينت، تحت عنوان "إسرائيل تنتصر.. ولكن النصر الدائم ضد حماس سيتطلب تنصيب قيادة جديدة في غزة"، يدّعي سبنسر أن إسرائيل تحقق تقدمًا نحو أهداف حربها، فقط ينقصها تنصيب قيادة جديدة في غزة.
لكن هل الأمر بهذه السهولة؟ إن هذا الهدف الإسرائيلي المُعقد ظل حُلمًا بعيد المنال طيلة 17 عامًا منذ أن وصلت حركة حماس إلى السلطة في قطاع غزة، ربما كان الأمر سيكون أكثر سهولة في ظل السلطة الوطنية الفلسطينية المهترئة، لكن حسم حماس للصراع الداخلي في قطاع غزة، حسم الأمر بقوة السلاح التي لا مفر منها.
أما الآن مع وضوح الصراع، وتحوّله بشكل مباشر بين "فلسطيني وإسرائيلي"، تبقى الكتلة الأكبر من الشعب الفلسطيني مع المقاومة.
فيما يتعلق بالنصر الإسرائيلي المزعوم، قال محررو مقال "هل يمكن كسب الحرب في غزة؟" إنه وفقًا لمعايير النجاح التي يعتمد عليها سبنسر والحكومة الإسرائيلي فإن الحرب لا تسير على ما يرام، ففي الأهداف الثلاثة للحرب (استعادة الرهائن، وأمن الحدود، والقضاء على حماس)، تزعم إسرائيل أنها أحرزت تقدمًا كبيرًا ولكن الأدلة تشير إلى خلاف ذلك، فضلًا عن أن التقدم الذي أحرزته إسرائيل يُقدم سابقة مقلقة لخفض المعايير الأخلاقية في السعي إلى تحقيق النصر.
ادعى نتنياهو أنه حرر الكثير من الأسرى، نتيجة الضغط العسكري الإسرائيلي على حركة حماس، في الوقت الذي طالبت فيه الحركة من أول يوم للحرب بصفقة تبادل للأسرى، ما يُضحد مزاعم النتن بالكلية، فضلًا عن أن الجيش الإسرائيلي قتل عددًا كبيرًا من الأسرى الذي يُفترض أنه يسعى إلى تحريرهم، كما يُهدد استمرار الحرب حياة من تبقوا.
أما عن أمن الحدود، فربما أصبحت حدود إسرائيل مع قطاع غزة أكثر أمنًا الآن مما كانت عليه قبل الحرب، ولكن هذا يرجع فقط إلى أن العملية العسكرية داخل غزة تعمل على كبح التهديدات عبر الحدود، ولم يتم التعامل مع التوترات الأساسية المرتبطة بالحصار الإسرائيلي المفروض على غزة قبل السابع من أكتوبر، التوترات ذاتها التي عذت هجوم حماس، بل إن القيود المفروضة على التجارة والمساعدات الإنسانية الداخلية إلى غزة أو الخارجة منها أصبحت أكثر صرامة مما كانت عليه من قبل، كما أن الحرب مستعرة داخل القطاع يسقط فيها يوميًا العديد من الجنود والضباط الإسرائيليين، فضلًا عن المركبات والدبابات والمعدات الإسرائيلية التي يُفجرها الفلسطينيون أو يستولون عليها.
وبخصوص تعويل البعض على إسناد مهمة الأمن في غزة إلى شركة أكاديمي (إكس إي أو بلاك ووتر سابقًا)، أو غيرها من القوات الأجنبية فإن حركة حماس التي لازالت تحتفظ بقوتها تعهدت بضرب أي قوة أجنبية أخرى تدخل القطاع، وعلى هذا فإن إسرائيل تبدو عالقة في حملة لمكافحة المقاومة في المستقبل المنظور، من أجل الحفاظ على مكاسبها المؤقتة.
في المقابل أصبحت حدود إسرائيل الأخرى أقل أمنًا بكثير، فمن لبنان تنطلق صواريخ ومسيرات حزب الله إلى عمق الأراضي المحتلة وتوجه ضرباتها إلى قلب تل أبيب، كما تنطلق صواريخ ومسيرات مشابهة من كل من سوريا والعراق واليمن، فضلًا عن إيران التي تحاول تجنب الحرب بتوجيه ضربات أكثر إيلامًا في كل مرة.
أما عن هدف القضاء على حماس، فها هي حماس حاضرة بقوة ضرباتها اليومية في قطاع غزة، والتي تُعلن عنها كتائب القسام، يوميًا يسقط قتلى وجرحى في جيش العدو، يوميًا تُحرق الدبابات والمجنزرات الإسرائيلية بقذائف الياسين 105.
والأخيرة هذه من كاتب هذه السطور إلى سبنسر ومن شابهه، يوميًا لازالت المقاومة تصنع المزيد من قذائف الياسين 105، والصواريخ، والمسيرات، في مصانعها على مسيرة 80 مترًا أسفل بعض المجنزرات الإسرائيلية التي سيأتي عليها الدور قريبًا.
تعليقات
إرسال تعليق