عبدالعظيم الأنصاري
منذ قرون طويلة لم تنته الهيمنة الغربية في قارة إفريقيا، تلك الهيمنة شبه الكاملة على أكثر دول القارة، وعلى أغلب مواردها ومقدراتها جعلت من إفريقيا مجرد ملعب خلفي للدول الكبرى، رغم بعض المحاولات للمقاومة أو الاستقلال النسبي الذي يتفاوت بين دولة وأخرى، خاصة مع توغل النفوذ الصيني والروسي والتركي إلى القارة السمراء.
تُعد نيجيريا نموذجًا لما يحدث في القارة الإفريقية بوجه عام، لما تعاني منه الدولة الكبيرة الغنية من فقر وانقسام، وتبعية رأيناها واضحة في تحولها إلى رأس حربة منظمة إيكواس، ومن ورائها فرنسا والغرب، في تحدي انقلاب النيجر الأخير وفرض العقوبات على النيجر، والتهديد بالتدخل العسكري، رغم معارضة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية النيجيري بقيادة سلطان سوكوتو لتلك العقوبات والإجراءات التصعيدية ضد النيجر.
بينما تدرس نيجيريا الآن التقدم بطلب للانضمام إلى مجموعة العشرين للاقتصادات الكبرى بعد أن أصبحت أول منتج إفريقي للنفط لتزيح جنوب إفريقيا عن هذا المركز، بعيدًا عن ما ينتظر الاقتصاد النيجيري من فرص وتحديات.
في الوقت الذي مازالت جراح الماضي القريب من فتنة بين المسلمين والمسيحيين لم تلتأم بعد، ويزداد فيه نفوذ بعض الجماعات المتشددة التي ثبت أنها مدعومة من قبل الغرب سواء كانت مسلمة أو مسيحية.
ألقيت ضوءًا على بعض تفاصيل المشهد النيجيري القاتم العام 2010، في المقال التالي:
نيجيريا.. المال والسياسة يلعبان بالبشر13/03/2010عبد العظيم الأنصاري
"مذابح نيجيريا عادت من جديد، ولن تتوقف"، هكذا وصفت الصحافة العالمية مقتل 200 من مسيحيي نيجيريا منذ أيام، وملئت الدنيا ضجيجًا، واتهمت المسلمين هناك بأنهم ارتكبوا مجزرة ضد المسلمين في مدينة جوس، ورغم أن المدينة نفسها شهدت مجزرة، بل وإبادة جماعية راح ضحيتها أكثر من 500 من مسلمي نيجيريا، إلا أن الصحافة نفسها تعاملت مع الحدث بدم بارد.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل بدأت القصة منذ أيام؟ أم بدأت منذ يناير الماضي عندما قامت ميليشيا مسيحية بارتكاب مذابح في حق ما يقرب من 500 مسلم في جوس؟ أم أن المسألة متعلقة بالرئيس عمر يارادوا المريض، والذي عاد إلى البلاد منذ أسبوعين بعد رحلة علاج طويلة في جدة بالمملكة العربية السعودية، ولم يظهر إلى شعبه في أي مناسبة عامة حتى الآن، ومنذ وصوله جدة في نوفمبر من العام الماضي؟ أم أن لها جذورًا غائرةً في التاريخ، ولها أسباب متعلقة بالأحوال الاقتصادية للبلاد التي يرزح فيها الشعب تحت نير الفقر والبطالة والجهل والمرض، في الوقت الذي تقبع فيه ثروة هائلة تحت أرضهم من بترول وثروات طبيعية متعددة؟ أم أن أسبابها متعلقة بصراعات مجتمع القبائل على الموارد المائية، والنفوذ على الأراضي؟ أم أن هذه المذابح متعلقة بالمصالح الاقتصادية للدول الكبرى التي تثمن قطرات البترول على قطرات الدماء؟ أم أن للقصة وجهًا آخر يضم مصالح الاقتصاد والسياسة والدين والبترول، وحمايته والمخططات الصهيونية للتغلغل وتأمين الكيان الصهيوني من أبعد الأخطار عليه والتبشير بالمسيحية في بلاد خضعت لفترات طويلة من تاريخها للمسلمين؟
كل ذلك يلتقي في إناء واحد يصب على رؤوس النيجيريين لتسيل دماؤهم مسلمين ومسيحيين ليجني الغرب أرباحه من البترول، ويطفئ الكيان الصهيوني أي فكرة لأي نهضة في أي قطر إسلامي في العالم قد تخصم من قوته، ونفوذه، وقد تهدده بأي شكل من الأشكال ذات مرة، وكذلك ليباهي الفاتيكان بازدياد أعداد أنصاره حول العالم.
بداية، يمكن تقسيم أسباب المشكلة في نيجيريا إلى أسباب داخلية وأخرى خارجية، كل منهم مكمل للآخر، فلا يمكن للعوامل الخارجية أن تؤثر داخليًّا بهذه الصورة إلا إذا كانت هناك عوامل جذب داخلية دفعت العوامل الخارجية إلى التأثير بقوة في الداخل، بالطبع كان للاستعمار دور بارز في إشعال الفتن، وتعميق المشكلات في نيجيريا، وتغليفها بنظريات، وأفكار وحتى عقائد؛ قبل الاستعمار عانت المنطقة بأسرها من الحروب بين القبائل الوثنية، والقبائل المسلمة، كما شهدت المنطقة قيام العديد من الممالك، وانهيارها بسبب هذه الحروب، وكونت هذه الحروب جدرًا فاصلةً بين أبناء المنطقة، رغم وحدة مصالحهم أمام العدو الأجنبي في كل الأحوال، وهذا ما نجح الاستعمار في استثماره لصالحه؛ لكنه عمل كذلك على خلق طبقات اجتماعية، وطوائف دينية ترتبط به ارتباطًا عقائديًّا وثقافيًّا ليخلق لنفسه موطئ قدم بعد خروجه عسكريًّا لاستمرار تسيير الأمور لصالحه سياسيًّا، ومن ثم اقتصاديًّا.
جذور الصراع
وعند الحديث عن نيجيريا، فإننا لا نتحدث عن بلد عادي فهي بما تمتلك من موارد طبيعية غنية، ومساحة جغرافية واسعة، وموقع متميز يجعل منها قنطرة بين سكان الصحراء، وسكان الغابات الاستوائية، وكذلك بتعداد سكانها الذي يصل إلى 140 مليون نسمة تعتبر ممثلاً للقارة الإفريقية ككل، دولة بهذا الحجم تستطيع التأثير في إقليمها بشكل كبير، وربما إذا استغلت مواردها، وخلت من المشاكل السياسية الطائفية والعنيفة، ربما تنجح في التأثير على النطاق الدولي، وهو ما تنظر إليه كل من الدول الاستعمارية الغربية، والكيان الصهيوني، باعتباره يمثل خطرًا حقيقيًّا، ليس هذا ضربًا من ضروب التخيل، وإنما هي الحقيقة.
لم تنس روما العصر الولايات المتحدة درس روما القديم عندما جلب هانيبال الأفيال الإفريقية، وتسلق بجيشه جبال الألب، وهبط على روما مهاجمًا، كذلك الكيان الصهيوني الذي ينظر إلى إفريقيا، باعتبارها الحديقة الخلفية للعالم العربي، وظهيره الإستراتيجي بينما لا يدرك العرب أنفسهم ذلك.
تنهال الأموال من منظمات التبشير المسيحية، ورجال مال وأعمال غربيين على كنائس نيجيريا لصد أي انتشار للإسلام، ورغم أن المسلمين يشكلون ما يزيد على 55% من سكان البلاد إلى أن المسيحيين بالدعم الكبير الذي يحصلون عليه من الغرب، ومن الكيان الصهيوني هم الذين يسيطرون على مقدرات البلاد فمعظم المدارس تابعة لهم ومدارسهم الخاصة أفضل من المدارس الحكومية، كما أن لهم جامعاتهم ومعاهدهم وشركاتهم.
في انتظار المزيد من الدماء
لم تأت المذبحة الأخيرة ضد المسيحيين إلا ردًّا على اعتداءات مماثلة متكررة ضد المسلمين، وليس هذا تبريرًا لإراقة دماء أي إنسان لكنه تفسير لمجريات الواقع الذي يتجاهله الغرب الذي يمول الميليشيا المسيحية بالمال، والسلاح، والمشكلة هنا لا تكمن في ارتكاب المذبحة، والرد عليها بمذبحة لكنها تكمن في استمرار، وتكرار الفعل، ورد الفعل، وما هذا في النهاية إلا استنزاف لموارد البلاد، وطاقتها البشرية، وهو ما لا يصب إلا في مصلحة الغرب والكيان الصهيوني.
الحروب تستنزف القارة الإفريقية كلها لحساب المستعمرين في الغرب والكيان الصهيوني، وكما يجهز الصهاينة لكل بلد عربي وإسلامي سيناريو للتقسيم، يجهزون كذلك سيناريو تقسيم لنيجيريا يتمثل في تقسيمها إلى ثلاث دول الأولى هي: أريوا في الشمال، والثانية هي بيافرا "قبيلة ايبوا"، والثالثة أودودوا "قبيلة يورويا".
وسعيًا لتنفيذ المخطط تشكلت عدة حركات، وميليشيا مسلحة على رأسها الحركة الانفصالية في قبيلة ايبوا، والتي تسعى لتأسيس دولة بيافرا الصهيونية؛ حيث يعتبر أبناء هذه القبيلة أنفسهم أبناءً للكيان الصهيوني، ويعتبرون المسلمين العدو الأول الذي يجب التخلص منه، وتحصل هذه الحركة على دعم مالي كبير من الكيان الصهيوني، وكبار رجال السياسة، والمال في الولايات المتحدة.
وحركة قبيلة يوروبا المسلحة، والتي تدعو إلى إحياء عبادة الأوثان، وتحارب تطبيق الشريعة الإسلامية في نيجيريا، وتدعو إلى إقامة دولة منفصلة لقبيلة يوروبا، بالإضافة إلى حركة جيش المسيح المسلحة، والتي تعتبر أقوى الحركات المسلحة في الجنوب، وتحتفظ بأسلحة متطورة، ودبابات، وصواريخ، وتتلقى دعمًا كبيرًا من الكنائس النيجيرية، وكبار رجال المال المسيحيين في الغرب.
ويبدو أن بعض المسلمين يسعون إلى التصدي للهجمات عليهم بنفس الطريقة، وهي استخدام السلاح، بل والهجوم للثأر من المذابح السابقة في حقهم، وهو ما حدث الأسبوع الماضي في جوس نفس البلدة التي شهدت مذابح ضد المسلمين، والآن تتحدث وسائل الإعلام عن مخاوف من الانتقام المسيحي، وهو ما يلقي بالبلاد على شفا الحرب الأهلية، خاصة في ظل معاناة البلاد من شبه فراغ دستوري؛ بسبب غياب الرئيس المسلم عمر يارادوا، والمطالبات بتنحيته عن الحكم، وهو ما يصب في صالح نائبه المسيحي المستأثر بمقاليد الرئاسة جودلاك جوناثان.
والحقيقة أن المستفيد الأكبر من كل ما يحدث، بالإضافة إلى الكيان الصهيوني؛ شركات البترول، والتي تشكل الشركات الأمريكية منها النسبة الأكبر؛ حيث تستحوذ على أكثر من 7.4 مليارات دولار من الاستثمارات في البترول في نيجيريا، والتي تنتج ما يقرب من مليوني برميل يوميًّا، يتوجه نصفها إلى الولايات المتحدة، وبذلك تحتل نيجيريا المركز الخامس في قائمة الدول المصدرة لأمريكا، وتلعب الشركات الأمريكية التي ترفض عمل أي من المسلمين فيها دورًا كبيرًا في الاضطرابات الطائفية التي تنشب بين الحين والآخر، فأحيانًا تغذيها، وأحيانًا تهدئها تبعًا لمصلحتها وسلامة آبارها، بغض النظر عن نزيف الدماء.
تعليقات
إرسال تعليق